Loading AI tools
سلطان مغربي من السلالة السعدية من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أحمد المنصور بالله الذهبي أمير المؤمنين المولى المجاهد أبو العباس أحمد بن الإمام مهدي الأمة أبي عبد الله بن المهدي الخليفة الإمام القائم بأمر الله[1] (مولده في 956 هـ\1549 م بفاس، وفاتهُ في 18 ربيع الأول 1012\25 أغسطس 1603 بضاحية فاس) هو سابع سلاطين المغرب من الأشراف السعديين. بويع في ساحة معركة وادي المخازن يوم الاثنين متمّ جمادى الأولى 986 هـ (4 أغسطس 1578 م) بعد وفاةِ أخيهِ السُّلطان عبد الملك الأول، واتَّخذَ المنصور بالله لقبًا تيمُّنًا بانتصار المسلمين فيها،[وب-عر 1] ولُقِّبَ بالذهبي لوَفرةِ الذَّهبِ في عهده.[2][3] تعرَّضَ المنصورُ في بدايةِ توّلِّيهِ الحُكم لمؤامرةٍ كادَ يفقد فيها سلطانه حاكها العثمانيون باتِّفاقٍ مع بعض كبار قادة الجيش المغربي من الأندلسيين بغرضِ تنحيتهِ وتوليةِ ابن أخيه إسماعيل بن عبد الملك، مُستَغلِّين في ذلك شعبيَّةَ المولى عبد الملك في نفوسِ العامَّة.[4]
أحمد المنصور الذهبي | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
فترة الحكم 1578 - 1603م | |||||||
نوع الحكم | سُلطان المغرب الأقصى | ||||||
|
|||||||
معلومات شخصية | |||||||
الاسم الكامل | أبو العبَّاس أحمد بن مُحمَّد الشيخ بن مُحمَّد المهدي السعدي | ||||||
الميلاد | 956هـ\1549م فاس، المغرب الأقصى، الدولة السعدية | ||||||
الوفاة | 18 ربيع الأول 1012هـ\25 أغسطس 1603م (54 سنة) فاس الجديد، المغرب الأقصى، الدولة السعدية | ||||||
سبب الوفاة | طاعون | ||||||
مكان الدفن | ضريح السعديين، عمالة مراكش، المغرب | ||||||
الديانة | مسلم سُني | ||||||
الزوجة | انظر | ||||||
الأولاد | انظر | ||||||
الأب | محمد الشيخ | ||||||
الأم | مسعودة الوزكيتية | ||||||
عائلة | السعديون | ||||||
الحياة العملية | |||||||
اللغة الأم | العربية | ||||||
اللغات | العربية | ||||||
التوقيع | |||||||
مؤلف:أحمد المنصور الذهبي - ويكي مصدر | |||||||
تعديل مصدري - تعديل |
عُدَّ حكم أحمد المنصور بالله الذي دام قرابة ستةٍ وعشرين عامًا أزهى عهود المغرب والحكم السعدي رخاءً وعلمًا وعمرانًا وجاهًا وقوة،[5] اتسعت فيه رقعة الدولة فأصبحت تمتد إلى ما وراء نهر النيجر جنوبًا، وبلاد النوبة المتاخمة لصعيد مصر شرقًا، وسعى فيه السلطان الشريف لاستعادة الأندلس وغزو الهند وفتح العالم الجديد وجهز لأجل ذلك العتاد والمُؤَن والجيوش.[فرن 1]
عُرِفَ المنصورُ بحبه للعلم ورعايته للعلماء،[6] فاستحق بذلك لقبَ عالمِ الخلفاء أو خليفةِ العلماء. ثم إن له في علم السياسة مؤلَّفًا بيّن فيه كيف تُنظِّم الأمةُ المُلكَ وكيف تحافظ على كِيانها ومجدها.[7] عرَفه الغربُ بالمتصوف صاحبِ المعرفة العميقة بعلوم الدين الإسلامي، المحبِّ للكتب والخط والرياضيات، العاشقِ للمناقشات العلمية والراعي للعلوم والفنون.[إنج 1] هذا ويعتبر السلطان الشريف حَسَبَ بعض المؤرخين من الأعلام التي كان لها الشأن العظيم والتأثير الكبير على الساحة السياسية الأورُبِّية والإفريقية في أواخر عصر النهضة.[إنج 1]
هو أحمدُ المنصورُ بالله بنُ محمدٍ الشيخ بنِ القائمِ بأمر الله بن عليِّ بن مخلوف بن زيدان بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عرفةَ بن الحسنِ بن أبي بكر بن علي بن حسن بن أحمد بن إسماعيل بن القاسم بن محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب.[8]
أوردَ وصفَهُ المؤرِّخُ أحمدُ بن خالد الناصريُّ في الاستقصا حيثُ قال:[9]
كانَ طويلَ القامةِ ممتلئَ الخدَّينِ واسعَ المنكبَينِ تعلوهُ صُفرةٌ رقيقةٌ أسودَ الشعرِ أدعجَ أكحلَ ضيِّقَ البَلَجِ برّاقَ الثنايا حسنَ الشكلِِ جميلَ الوجهِ ظريفَ المنزعِ لطيفَ الشمائل. |
انتشرت عدَّةُ أقوالٍ حول تولِّي أحمد المنصور للخلافة[10] منها ما جاءَ عن الفقيهِ أبو العبَّاس أحمد بن عبد الله الدغوغي متنبئا بخلافة أحمد المنصور بعد رؤيا صالحة رأى فيها نفسه فِي جمع يسردُ فيه صحيح البخاري بموضعٍ من قصرِ السُّلطان، وهو يحملُ كتابًا بين يديه، ويقولُ في ذلك:
ونحوُ ذلك ما ذكر عن بكدار ابن الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علال المالكي البوخصيبي أنه رأى النبي ﷺ في منامٍ، فشكا إليه الفساد الذي عاثته قبيلة أولاد مطاع فقَال له النبي ﷺ: «يَأْتِيهم أَحْمد»، فَكَانَ أن تولَّى أبو العبَّاس المنصور فأخذهم وفلَّ جمعهم.[12] وأخرى وردت عن سفير الدولة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ الْجُزُولِيّ الدرعي عند حجه لبيت الله بعد اجتماعه مع بعض أهل العلم من المكاشفة المصريين الذينَ سألوهُ عن أسماء أبناء سلطانه محمد الشيخ فعدِّهم ولم يذكر المنصور -إذ كان قد وُلد أثناء سفرته هاته- فقالوا: «أليس فيهم أحمد أي فهو خليفة الإسلام عظيم الشأن قوي السلطان المفتوح له وعلى يده».[13] كما كان أحمد المنصور نفسه يقص رؤيا رأى فيها النبّي ﷺ وأنواره تشرق، فسأله.[14]
كانت ولادة المنصور بِاللَّه بفاس سنة 956هـ الموافقة لسنة 1549م، أمه مسعودة بنت الشيخ أحمد بن عبد الله الوزكيتي الورزازي،[15] وعاش قسمًا من طفولته بقرية أمسكرود بسوس،[16] وحظي بحظوة خاصة عند والده محمد الشيخ وجده القائم بأمر الله،[14][17] ونشأ في العفاف والصيانة، وتعاطٍ للعلم وملازمةٍ لأهله في مراكش ثم تارودانت فأخذ العلم عن كبار فقهاء ومشايخ عصره، كأبي العباس بن علي المنجور وشقروان بن هبة الله وأبي زكرياء يحيى السراج وموسى الروداني وغيرهم،[18] فكان أن برع في الأدب والشعر والفقه والمنطق والرياضيات واضعًا كسب العلم والثقافة والأدب والفقه نهجًا لحياته. انتقل المنصور إلى المشرق بعد أن تولى أخوه عبد الله الغالب الحكم، فدرس الشيء الكثير واكتسب خبرة ورؤية في شؤون أوروبا ودول البحر المتوسط.[19]
وتختلف الروايات عن الأحداث التي مر بها في شبابه، فحسب الإفراني بعد تولي أخيه الغالب الحكم اغترب مع أخيه عبد الملك إلى تلمسان،[20] وجابا أرجاء الدولة العثمانية حيث طلبا من السلطان العثماني سليم مساعدتهما إلا أنه رفض.[21] كما شاركا في معركة ليبانت مع العثمانيين حيث أُسر أحمد في يد الإسبان لمدة عامٍ تعلم فيها اللغة الإسبانية، ثم نجح الأخوان في استرجاع حلق الوادي بتونس من يد الإسبان.[إنج 2] وبعد هذا الانتصار أمر السلطان العثماني بدعمهما فدخلا في صراعٍ مع أخيهما المتوكل انتهى بهزيمته في معركة خندق الريحان فتولى عبد الملك العرش، وعهد إلى أحمد أن ينوب عنه في فاس.[21]
غير أن الفشتالي[إنج 2] روى بأنه ظل بالمغرب الأقصى إلى غاية وفاة أخيه الغالب سنة 1574.[فرن 2] بينما ذهب المؤرخ إبراهيم حركات إلى أن أحمد المنصور هاجر مع أخويه في البداية إلا أنه رجع في ظروف غامضة إلى المغرب لمتابعة دراسته.[21]
قدَّم أحمد المنصور دورًا مهمًا في معركة وادي المخازن، فقد كان يقود فرقة خيالة على ميمنة الجيش[إنج 3] ويرجع له الفضل في النصر بفضل مهارته العسكرية والتكتيكية وثباته، رغم قوة الهجوم البرتغالي وإصابته برصاصة في صدره.[22][إنج 4]
بويِع أحمد المنصور سلطانًا من قبل الجمع الذي شارك في معركة وادي المخازن خلفًا لأخيه عبد الملك الذي توفي عقب المعركة. يقول أحمد بن خالد الناصري:
وما إن استتب للمنصور الأمرُ حتى كتب لسائر الدول الإِسلامية المجاورة للمغرب يحدثهم بما أنعم عليه الله من نصر وسلطان، فانكبت عليه التهاني من سائر الأقطار والأمصار، والهدايا من ملوك أوربا، ومن العالم الإسلامي سيفٌ مُحَلَّىً من السلطان مراد بن سليم العثماني.[23]
عقب معركة وادي المخازن كان على المنصور مواجهة الأطماع العثمانية، حيث أرسل العثمانيون وفدًا إلى مراكش في سبتمبر 1579 مطالبين بالتنازل عن بعض الموانئ المغربية، وخصوصًا ميناء العرائش مُرفقًا بهدايا لا تليق إلا بـ«خادم».[فرن 3] كما سعت الدولة العثمانية لإسقاط حكم المنصور في بداياته بالتآمر مع الأندلسيين الموريسكيين،[24] وتولية ابن أخيه إسماعيل بن عبد الملك من زوجته التركية التي تزوجت باشا الجزائر وذلك بتحضير انقلاب سنة 1578، ودعم ابن أخيه داود بن عبد المؤمن بن محمد الشيخ[25] الذي تمرد بسوس عقب البيعة، فبعث له المنصورُ القائدَ أبا عبد الله محمد بن إبراهِيم بن بجة الذي فلَّ أمره وفكَّ جمعه. نزح بعدها داود إلى الصحراء واستقر بها إلى أن توفي سنة 988هـ.[26]
أما عرب الخلط فكانوا من قبيلتي مختار وسفيان استقدمهم سلاطين دولة بني مرين من المغرب الأوسط إلى المغرب الأقصى، ونظرًا لولائهم تبوّؤوا أعلى المناصب في الجندية،[27] وظلوا كذلك إلى عهد السلطان محمد الشيخ السعدي إذ خلع عرب الخلط من سلك الجندية ونقلهم من آزغار إلى مراكش وذلك لما أظهروا من مساعدةٍ لأبي حسون الوطّاسي لما قدم بجيش العثمانيين،[28] وظل أمرهم كذلك حتى تولى أحمد المنصور الحكم فعفا عنهم ونقلهم من مراكش إلى حيث كانوا بآزغار وألحق نصفهم بالجندية بعدما رأى قتالهم في واقعة وادي المخازن.[29] إلا أن ذلك أدى إلى عثوّهم في البلاد فسادًا، وضايقوا الرعية، فكثرت الشكاية منهم ومن ذلك نهبهم لقبيلة أولاد مطاع،[29] ففرض عليهم أحمد المنصور في أول الأمر ضريبةً فلم يزدادوا إِلا عتوًّا وشدةً،[29] فأرسل إليهم القائد موسى بن أبي حميد العمري، وانتزع منهم الخيل، ثم قاتلهم حتى استأصل جمهورهم وضعفت شوكتهم.[29]
تضم هذه الأراضي كلًّا من توات، وجودة، وتامنطيت، وتابلبالت، وأرڭلان، وتسابيت، وتيكورارين، وغيرها.[30] وكان ذلك عام 990 هـ الموافق لعام 1583م بعد إرسال المنصور حملةً (لفظ مغربي مرادف لجيش) بقيادة القَائد أبي عبد الله محمد بن بركة والقائد أبي العباس أحمد ابن الحداد العمري. بدأت مسيرة الجيش انطلاقًا من مراكش، ووصل بعد سبعين يومًا، حيث قاموا في بادئ الأمر بالدعوة للطاعة والإنذار، وبعد امتناع شيوخ القبائل عن الإذعان بدأت الحرب.[5][29][31]
ووصف المنصور أهمية قصور الصحراء في رسالةٍ أرسلها لأهل توات وتيكورارين بقوله: «من أجل ممالكنا التي لها عندنا الخطر والبال ونتوجه إليها بوجه الإيثار والاهتبال ونحمي حماها من طوارق البغي والفساد».[32]
حاول السعديون السيطرة مرارًا على شنقيط، وأبرز المحاولات كانت في عهد السلطان محمد الشيخ؛ لكن السيطرة عليها لم تتأتَّ إلا في عهد أحمد المنصور الذهبي الذي جرد حملتين لها عام 1584م. الأولى قوامها عشرون ألف مقاتل (أو ثمانون ألف مقاتل [إنج 5]) تمكنوا من السيطرة على وادان وبلاد شنقيط حتى وصلوا إلى حدود نهر السنغال. ولكن إثر كمينٍ دبرته القبائل الشنقيطية للحامية السعدية بشنقيط فشلت الحملة، كما أن الجنود ضلوا الطريق وداهمهم العطش ومات بعضهم على أسوار مراكش،[33] وقد تعمد المنصور إلحاق الضرر بالحملة لأن جنودها قاموا بنهب وسلب مراكش[34] قبل ذلك إلا أن جزءًا من الحملة تمكن من ضم تغازا للسلطنة الشريفة.[35]
أما الحملة الثانية فكانت تحت قيادة القائد عبد المولى الذي تقدم بجيش صغير مكون من قبائل تكنة والعروسيين وأولاد أبي السباع، وفرقة صغيرة من العبيد بالإضافة إلى جيش نظامي بقيادة رئيس شرطة فاس محمد بن سالم[36] حيث استطاعوا السيطرة على بلاد شنقيط خلال تسعين يومًا[37] وحصلوا على بيعة العديد من الملوك السنغاليين حتى بلغ عدد المبايعين للمنصور في بلاد السنغال عشرون ألف خيمة فامتدت الدولة لما وراء نهر غامبيا.[38] وبذلك دانت للمنصور بلاد شنقيط وبلاد السنغال.[39]
ورد على المنصور سنة 990هـ رسالة يحملها رسول ملك برنو يطلب فيها المدد بالعسكر والجند والبنادق والمدافع للمحاربة والجهاد بالسودان،[40] فأجابهم بأن الجهاد لا يتم لهم إلا بعد حصولهم على إذن من إمام الجماعة؛ الصفة التي خص الله بها أمير المؤمنين، وطالبهم بالبيعة،[41] فقبلوا بيعة أحمد المنصور وطلب رسول أبي العلاء نسخة مكتوبة من عقد البيعة لتكون حجة لهم وعليهم،[41] فحررها كاتب الدولة أبو فارس عبد العزيز الفشتالي،[41] ونصها ما يلي:
ثم أعاد المنصور توجيه نظره نحو الشمال بسبب قيام رجل اسمه الحاج قرقوش المكناسي بثورة متلبسًا بلباس الزاهد في الدنيا فأعلن نفسه أميرًا للمؤمنين بجبال غمارة وبلاد الهبط، وكانت ثورةً عنيفةً شغلت بال أحمد المنصور الذهبي، وجهز جيوشًا كبيرةً لقمعها.[إنج 6] وأسند السلطان أمر قمع هذه الثورة لولي العهد الشيخ المأمون، والقائد العسكري حمو بجة، وكان القادة العسكريون يرسمون الخطط الحربية لقمع الثورة من مدينة شفشاون، واستمرت الحرب عدة شهورٍ من سنة 996هـ الموافقة لسنة 1587م، إلى أن استطاعت جيوش المنصور بعد معاركَ طاحنةٍ التغلب على الثورة التي كان من نتائجها أن عرفت هذه المنطقة فترة حالكة من حياتها.[42]
وبعد إخماد ثورة قرقوش كان على المنصور مواجهة أطماع الملك فيليب الثاني ابتداءً من أواخر سنة 1581م الذي سعى لإقناع المنصور بأن يتنازل له عن ميناء العرائش فاضطر السلطان أن يعده بذلك،[43][44] لكنه كان يسعى فقط لكسب الوقت ليعيد بناء تحصينات المدينة وانتظر حتى يراسله مرة أخرى وذلك بعد ستة أشهر. واستمر الأخذ بخاطر فيليب الثاني ثلاث سنواتٍ أخرى إلى سنة 1585،[45] حين اكتشف هذا الأخير مؤامرة المنصور الذي يحاول عقد حلفٍ مع الإنجليز والهولنديين الأعداء التقليديين للكاثوليكية وآل هابسبورغ والملك فيليب، فهدد هذا الأخير بأخذ العرائش عنوةً، ودعمَ الأميرَ المولى الناصر.[فرن 4] فأجابه المنصور بالنقض البائن للوعد الذي كان بينهما حول العرائش فهو لن يخاطر باستقرار ملكه بتسليم الميناء للنصارى، وأنه إذا اضطر للتخلي عن الميناء فإنه سيسلمه للعثمانيين المسلمين مؤكدًا في الوقت ذاته أن العرائش أصبحت في تحصين بما كان لا يقدر عليه أحد، وأن إسبانيا لم يعد لها ما تخشاه من الخطر العثماني مشيرًا لطلب أليصابت ملكة إنجلترا منه دخول حربٍ معها ضده أو على الأقل جعل الموانئ المغربية قواعد تنطلق منها الهجمات الإنجليزية،[برت 1] وأنه حفاظًا على علاقة الصداقة لم يشأ إجابة أليصابت بعد، ليعود فيليب الثاني سنة 1586 ليخطب ود أحمد المنصور وعرض تبادل العرائش بمزاكان فرفض المنصور.[46]
في خضمِّ ذلك أفلح السلطان في عقد اتِّفَاقٍ مغربي إنجليزي برتغالي، دعم بموجبه جهود إنجلترا في صراعها ضد إسبانيا بمساندة البرتغالي الدون أنطونيو في مطالبته بعرش البرتغال من خلال قرض مشروط بتوجيه هذا الأخير لابنه الدون كريستُف رهينةً إلى حين تسديده.[فرن 5]
استعمل المنصور الدون كريستُف ابن الدون أنطونيو ورقة ضغطٍ مقابلةً لورقة الأمير المولى الناصر التي يملكها فيليب الثاني. هدد هذا الأخيرُ السلطانَ بأنه سيجمع أكبر أسطول بحري لكن المنصور علم بفضل شبكة جواسيسه المكونة من اليهود والأندلسيين أن الأسطول يتجه إلى إنجلترا وأنه لا يشكل خطرًا عليه، أتبع ذلك تعرض الأسطول الإسباني للهزيمة على يد الإنجليز سنة 1588 وإرسال الملكة أليصابت رسالة للمنصور تخبره بذلك.[47] فأرسل أحمد المنصور أحمد بن عيسى النقسيس لمهاجمة الحامية الإسبانية بسبتة فنجح في نصب كمينٍ سقط فيه أربعمائة أسير إسباني.[48] وكاد يفتتحها فتحًا كاملًا لولا وصول نجداتٍ قوية.[49]
دشن ذلك حقبة جديدة من العلاقات المغربية الإسبانية، فالحرب على الجبهة المغربية في نظر فيليب الثاني قد تتسبب في ثورة الأندلسيين ودخول العثمانيين على خط الصراع، ما جعله يذعن لعقد اتفاق. فجرى الاتفاق على أن تعيد إسبانيا أحد الثغور المحتلة للمنصور[فرن 6] (اتُفِق على سبتة ثم استقر الأمر على أصيلة)، والتّخلي نهائيًا عن حلم تملك العرائش، وإبعاد المولى الناصر عن المدن البحرية ووضعه تحت الإقامة الجبرية.[فرن 7] أعقب ذلك الاتفاق التزام المنصور الحياد[فرن 7] سنة 1589 في معركة الأرمادا الإنجليزية مما ساهم في هزيمة الإنجليز ووقوع قطيعةٍ سياسيةٍ بينهم وبين المنصور على حساب تعزيز العلاقة مع فيليب الثاني. استطاع بعد ذلك أحمد المنصور التخلص من الضغط الأيبيري، وتفرغ لمشاريعه في بلاد السودان (غرب أفريقيا).
بعد مبايعة برنو له، فرغ المنصور لصنغاي فكاتب طالبًا البيعة وخراج من حاكمها إِسحق سكية،[61] فامتنع واحتج بكونه أمير تلك الناحية وَأَن طاعة المنصور لا تجب عليه،[62] بل وأجابه بكلام قبيح وأرسل له نعلين من الحديد.[63] تبع ذلك استشارة أعيان الدولة وأهل الرأي والمشورة الذين أفتوا بالبعث إِلى السودان.[62] بعد أن تخوفوا بداية من المشروع نظرا لبعد المسافة وإسلام حكامها، ولكن المنصور أقنعهم بعد أن وضح لهم أن الطريق عبر الصحراء طريق يسلكه التجار، وأن الفتح سيكون ذو نتائج محققة.[64]
بدأ التجهيز للحملة سنة 997 هـ واستمر طيلة السنوات الثلاث الموالية،[65] كتب بعدها المنصور إِلى قاضي تنبكت الفقيه أبي حَفْص عمر ابْن الشيخ محمود ابن عمراء قيت الصنهاجي يأمره بحض الناس على الطاعة ولزوم الجماعة،[65] وبدأت مسيرة الحملة من تانسيفت بقيادة الباشا جؤذر مرورًا بثنية الكلاوي ثم درعة، والصحراء الكبرى في رحلة استغرقت مائة يوم وصولًا إلى مدينة تنبكت ثغر السودان،[65] حيث التقوا بعد عدة أيام بجيش إِسحق سكية المكون من مائة وأربعة آلاف مقَاتل في معركة استمرت من طلوع الفجر إلى العصر كانت الغلبة فيها لجيش المنصور.[15] أتبع المعركة عقد الباشا جؤذر الصلح مع إِسحق سكية ورجوعه لمدينة تنبكت حيث اتُفق على دفعه خراجًا سنويًا وضريبةً يؤديها حالًا.[15]
لم يستسغ المنصور الصلح فعزل الباشا جؤذر وعين أخوه محمود باشا مكانه وأمره بمطاردة إِسحق سكية، فكانت المواجهة الثانية قرب مدينة كاغو،[66] ثم المواجهة الثالثة مع أخ إِسحق تمهدت بعدها البلاد لمحمود باشا واستولى عليها كليًا وكتب بخبر الفتح إلى المنصور.[وب-عر 2][67][68]
ثم حاول منسا محمود الرابع سلطان مالي استغلال انهيار سلطنة صنغاي، فأرسل جيشًا إلى جني لكنه هزم مما أدى إلى سقوط سلطنة مالي.[وب-عر 3] وضمها للسلطنة الشريفة والوصول إلى مناجم ذهبها.[69]
بالرغم من ضخامة الإمكانيات المجندة لها وعدم تمكنها من بلوغ منابع ذهب كبيرة، خلفت الحملة وقعًا إيجابيًا على خزينة الدولة، فقد أسهمت في تعزيز قيمة العملات وفي تمكين المخزن من اقتناء متطلباته بشروط أفضل.[70] كما أدت لانتشار الذهب في المغرب الأقصى حتى صنعت منه أوان وحلية لا تعد حصرًا، ولذلك أطلق لقب «الذهبي» على أحمد المنصور.[71] وتكاثرت بفضل هذا الذهب المنشآت العمرانية والصناعية، كما نشطت الحركة التجارية مع الخارج نشاطًا لم يُعرف له مثيل سابقًا.[72] إلا أن تنبكت التي عرفت عصرًا علميًا زاهرًا، خلت من جميع مثقفيها الذين انتقلوا إلى المغرب الأقصى، وكذلك الشأن بالنسبة لكاغو.[فرن 9] إلا أن ذلك لم يعطل التقدم العلمي بالسودان بل وعرفت تلك البلاد لأول مرة التعليم المنهجي إذ أعطت جامعة سنكوري في القرن السابع عشر أول إجازة علمية كما ظهر مؤرخون وشعراء ورحالة.[73] وقد اقتبست السودان عن الجيش السعدي هندسة البناء، وكان أول عمل قام به الجيش هو بناء قصبة تنبكت، دون أن ينقل إليها فن البناء الأندلسي،[72] وإنما اكتفى بنقل هندسة مباني الجنوب المغربي، وانتشر الإسلام بين القبائل الوثنية هناك، فانتقل إلى القرى بعد أن كان مقتصرًا على المدن.[فرن 10] كما استقر أعقاب الجيش السعدي بالسودان، وانصهروا في أهله عن طريق النسب، وشكلوا باشوية تنبكت، لتصبح ولايةً تابعةً لسلاطين المغرب الأقصى، إلى غاية سنة 1826م.[فرن 11]
بعد اندحار الأرمادا الإسبانية، حوَّل المنصور الذهبي سياسته تجاه إسبانيا من المهادنة إلى الجهاد،[74] فأمر باعتراض العديد من السفن الإسبانية التي مرت قرب ميناء أكادير وغنم منها عدة مدافع. كما سيَّر عدة حملات متقطعة طيلة ثلاثين سنة [75] نحو الجزائر الخالدات (الكناري)[75][76] بقيادة الرياس موراطو وشعبان والقلفاط [فرن 12] اللذان هاجما كل من جزيرتي لنسروتي وفرطناتش حيث نجحا في أسر أكثر من ثلاثمئة شخصًا خلال الحملة وذلك بين سنتي 1593 و1595م.[48] كما أرسل المنصور عدة سفن شاركت في غزو مدينة قادش الإسبانية.[إنج 10]
ردًا على حملات المنصور على الجزائر الخالدات،[77] واستغلالًا لانشغاله بفتح السودان، حرَّض الإسبان ابن أخيه الناصر الذي كان لاجئًا لديهم منذ وفاة عبد الملك المعتصم بعد نشوب معركة وادي المخازن على تدبير مؤامرة للإطاحة بالمنصور،[78] فنزل بمليلية،[79] واستطاع أن يحصل على نصرة أهل الريف وتازة وناحية مكناس ومناطق تواجد قبائل زناتة وزاوية عبد الله الكوش[80] وعرب الخلط والغرب والحيانية.[81] بيد أن المنصور تمكن من سحق تمرده فاعتقله ثم ضرب عنقه سنة 1105 هـ.[82]
سعى المنصور بعد ذلك إلى إنشاء مستعمرات بالأمريكيتين [75] عبر عقد تحالف مع الإنجليز وطلب من الملكة أليصابت الاستحواذ على جزر الأزور لقطع طريق العالم الجديد على الإسبان،[فرن 13] فلقي طلبه قبولًا كبيرًا في لندرة لكن الكوارث الطبيعية التي حلت بالمغرب سنتي 1597 و1598م من طاعون وجفاف حالت دون تنفيذ الاتفاق.[83]
أعاد المنصور طرح مقترحاته السابقة سنة 1599م مستغلًا عدم الاستقرار التي مرَّت بها شبه الجزيرة الأيبيرية بعد موت فيليب الثاني، فأرسل سفارة رسمية سرية إلى لندرة سنة 1600م بقيادة عبد الواحد عنون،[فرن 14] الذي أبرز استعداد الدولة السعدية لتمويل الحملة وتجهيزها، واقترح عملية أخرى مشتركة لفتح أراضي الهند وأمريكا وأيبيريا،[84] وأن جيشه الذي غزا به السودان والذي تمكن من فتح ستة وثمانين ألف «خيمة» قادر وجاهز لذلك،[فرن 1] وأن شعوب الهند المسلمة في غالبيتها ستسعد بالانضمام إلى جيوشه الفاتحة.[فرن 15] لقي اقتراحه القبول من أليصابت الأولى وأشارت أن مناطق الهند وأمريكا غنية جدًا بالموارد وأن غزوها أفضل من غزو أيبيريا،[فرن 15] مردفة أن غزوة كهذه تتطلب تجهيز مبلغ ضخم يقدر بمائة ألف جنيه، واقترحت على المنصور تمويلها بالكامل واسترجاعها على شكل غنائم.[فرن 15] قبل المنصور بذلك، وأرجى الاتفاق على التفاصيل التنظيمية وطريقة اقتسام الغنائم،[إنج 1] واشترط أن كل الأراضي المفتوحة في أيبيريا تعود إليه حصرًا لأن العلماء سيرفضون حث الناس للخروج إلى الحرب ما لم ينجم عن ذلك استرداد الأندلس للمسلمين.[85] وحاول المنصور استمالة الإنجليز بإمدادهم بالقمح وقت المجاعة، كما عرض على إنجلترا شراء أو كراء بعض من سفنها البحرية، ولكن الإنجليز تخوفوا من أن المنصور يريد أن يزج بها زجًا في حرب ضد إسبانيا، فماطلوا بطلبهم مواصلة المفاوضات في مراكش حيث اقترح أحمد المنصور تقسيم المستعمرات الإسبانية بحيث تحصل الدولة السعدية على جزر الكاريبي بينما تحصل إنجلترا على المناطق ذات المناخ الأكثر اعتدالًا.[إنج 11]
أتبع ذلك صمت سياسي، فكل من أحمد المنصور والملكة أليصابت الأولى واجها أزمات ومشكلات داخلية. فالمغرب عرف كوارث طبيعية تمثلت في الجفاف والطاعون للمرة الثانية سنوات 1601 و1602 و1603م، وأخرى سياسية تمثلت في تمرد ولي العهد المولى المأمون ابتداءًا من سنة 1602م، أما إنجلترا فقد عرفت ثورة عارمة في أيرلندا استمرت لحدود سنة 1603م، تبعها وفاة أليصابت الأولى خلال شهر مارس من السنة نفسها ثم أحمد المنصور في أغسطس من السنة نفسها أيضًا.[85]
أقدم أحمد المنصور على تقسيم الولايات على أبنائه: فمنح سوس لأبي فارس وتادلة للمولى أبي الحسن؛ ومكناس لزيدان،[86] أما الشيخ المأمون فكانت له قوة عسكرية تعدادها اثنتان وعشرون ألفًا، اهتم بها وأغدق عليها المال وكسا رجالها، فكسب ولائها، وأسرف في استعمالها في عداوته على الناس. فتدخل الفقهاء بالصلح بين ولي العهد ووالده في أحداث عديدة متعلقة بالسلطة، في معظمها ناشئة عن سوء سيرة ولي العهد.[وب-عر 5]
ولَمَّا كثرت الشكايات التي ترددت على أَبِيهِ، كتب إِلَيْهِ محاولًا زجره وكفَّه عن أفعاله تلك، لكنه على ما يبدو لم يزده التحذير إِلَّا إغراءً، فَلَمَّا رأى السلطان المنصور أَن ابنه لم يكترث له، عزم على التَّوَجُّه إِلَى فاس بِقصد تأديبه، فوصل الخبر إلى الشَّيْخ المأمون فجمع جيشه المكون من اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفًا، فزادهم في العطاء وكساهم كلهم الملف وَالْحَرِير.[87] وعزم التوجه إلى تلمسان ليستجير بالعثمانيين، فَلَمَّا علم السلطان بنية ابنه الذّهاب إِلَى تلمسان تراجع عَن الْخُرُوج من مراكش، وَكتب إِلَى ابنه الشَّيْخ يلاطفه ويأمره أَلا يفعل، وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى لَهُ عَن خراجهما، كل ذلك من أجل أن يعود إلى طاعته ورشده، فتظاهر الشيخ بامْتِثَاله للْأَمر وَخرج متوجها إلى سجلماسة، لكن لم يبتعد في طريقه عَن فاس بِشَيْء يسير حَتَّى نَدم وَرجع إِلَيْهَا. فبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور أَعْيَان مراكش لينصحوه وفقهائها ليعظوه وخوفوه من سخط وَالِده وَحَذرُوهُ عَاقِبَة العقوق، فَرجع الْوَفْد إِلَى الْمَنْصُور وَقَالُوا لَهُ إِنَّه قد تَابَ وَحسنت حَاله. ويروي المؤرخون أنه في سنة 1007هـ بعث السلطان لولده المأمون بفاس هدية من مراكش فيها تحف وأموال عريضة من بينها فيلة صغيرة، فخرج للقاء ذلك أهل فاس بنحو مائة ألف شخص، وسميت هذه السنة بالمغرب بعام الفيل.[وب-عر 6] لكن الْمَنْصُور لم يطمئن لقَولهم، فصمم على الْمَكْر بابنه الشيخ، فَكتب إِلَيْهِ في جُمَادَى الأولى 1011 هـ رسالة طَويلة كي يباغته على غَفلَة. فبعث الْمَنْصُور إِلَى وَلَده زَيْدَانَ يَأْمُرهُ أَن يُرْسل مائَة من الفرسان على طَرِيق تاقبلات من أجل قطع الطريق على أي من وجدوه قَاصِدًا للغرب من نَاحيَة مراكش، وَأرْسل مَوْلَاهُ مَسْعُود الدوري على طَرِيق سلا يفعل مثل ذَلِك وَخرج الْمَنْصُور من مراكش فِي جيش مكون من اثنا عشر ألفًا أوائل جمادى الأولى 1011 هـ، فأحاط بفاس وفر ابنه إلى زَاوِيَة الشَّيْخ الصَّالح أبي الشتَاء من بِلَاد فشتالة قرب نهر ورغة. فَبعث إِلَيْهِ الباشا جؤذر مَعَ الْقَائِد مَنْصُور النبيلي، فاقتتلوا وقبضوا عَلَيْهِ وَأتوا بِهِ إِلَى الْمَنْصُور فَأمر بسجنه في مكناسة.[وب-عر 7]
توفي أحمد المنصور بالله بعد مرضه بداء الطاعون الذي انتشر في بلاد المغرب سنة 1603م، وكان ذلك بظهر الزاوية بفاس الجديد، ودفن بعد صلاة العصر من يوم العليا، ونقل بعد ذلك الإثنين 16 ربيع الأول سنة 1012 هـ الموافق 23 أغسطس 1603م إلى مراكش ودفن بضريح السعديين، وهي رواية الإفراني. أما رواية الإخباريين الإسبان المعاصرين له فإنه تعرض لتسميم من قبل زوجته عائشة بنت أبي بكر الشبانية، بتحريض من ابنها المولى زيدان.[فرن 16][88] وهذا ما ذكره أيضًا السعدي في كتابه «تاريخ السودان» وذلك لأنه أوصى ببيعة ابنه أبي فارس.[88]
حكم المنصور في فترة استثنائية، تحديدًا خلال عصر النهضة الأوروبية، فكان له أعظم دور في الحفاظ على استقلال المغرب الأقصى[89] ومواكبته للعصر باعتماده المكثف لأسلحة البارود، كما ربط علاقات دبلوماسية مع مختلف القوى العالمية، مساهمًا في الاقتصاد العالمي من خلال تصدير السكر والذهب،[إنج 12] وذلك من أجل ضرب القوى الأوروبية بعضها ببعض لاسترجاع الأندلس وفتح الكاريبي، ولكنه لم ينجح في مساعيه،[90] بيد أنه تمكن من تحرير أصيلة وأغار على سبتة حتى كاد يفتحها.[91] كما سعى لتأسيس خلافة بالغرب الإسلامي، فلقب نفسه بالخليفة،[إنج 13] فكان أول من أظهر أبهة الملك من الملوك السعديين،[92] واتخذ العلم الأبيض شعارًا لدولته،[49][93] ولقب الفشتالي ذلك العلم بـ«اللواء المنصور».[94]
وأوضح كاتب برتغالي مجهول في كتابه «وصف المغرب: في عهد المولى أحمد المنصور» مساحة السلطنة الشريفة في عهده سنة 1591 قبيل ضم السودان الغربي [فرن 17] فيما يلي:
وبعد ضم السودان، امتدت رقعة الدولة من نهر السنغال [39] (نهر غامبيا حسب محمد الغربي [95]) إلى نهر النيجر.[90] واتسعت لتضم أجزاءً شاسعة من الصحراء الكبرى وبلاد السودان، فأصبحت حدود الدولة تمتد من بلاد فزان والدولة العثمانية في الشرق إلى نهر النيجر في الجنوب والمحيط الأطلسي في الغرب والبحر الأبيض المتوسط في الشمال، يقول أحمد بن خالد الناصري في ذلك:
إذ أن كل من أغاديس وبلاد الهوسا وبعضا من مملكة كاشينا ومجمل مملكة كانو (أي غرب جمهورية النيجر والشمال الغربي والأوسط لنيجيريا حاليا) كانت تابعة لأحمد المنصور.[97] كما أن الطوارق تابعون للسلطنة الشريفة ولكنهم معفون من الضرائب (تبعية اسمية)[فرن 19][98]
ولتسهيل وتيسير حكم البلاد قسمها إلى عدة أقاليم وكل إقليم يرأسهُ ممثل السلطة المخزنية الشريفة يسمى عاملًا، وينقسم كل إقليم إلى مجموعة من القيادات يرأسها قائد أو باشا؛ تنقسم بدورها لمجموعة من المداشر وكل واحدة منها يرأسها شيخ القبيلة.[99]
عمل المنصور على تقوية علاقاته مع الدول الإسلامية والمسيحية،[100] مستغلًا الصراعات بين قوى المنطقة لمواجهة أطماعها، فلمواجهة الطموحات العثمانية مارس السلطان سياسة مصالحة تجاه آل هابسبورغ، ولمواجهة تهديدات الاتحاد الأيبيري عقد علاقات ثابتة ودائمة مع إنجلترا وفرنسا وهولندا أعداء الهابسبورغ التقليديين كما انتهج في أحيان أخرى سياسة التهدئة تجاه العثمانيين وذلك باستئناف علاقات شبه طبيعية معهم لمواجهة أطماع الدول الأوروبية عمومًا والأيبيرية خصوصًا.[101][102]
تميزت العلاقة بين أحمد المنصور والعثمانيين بادئ الأمر بالتوتر فقد شهد المنصور وسنُّه لم يتجاوز ثماني سنوات[103] اغتيال أبيه محمد الشيخ المهدي من قبلهم، ومحاولاتهم المتكررة التدخل في شؤون السلطنة الشريفة، ودهاء أبيه ومستشاريه واستغلالهم السياقات الدولية المواتية للحفاظ على استقلالهم، كما شهد مساعدتهم لأخيه عبد الملك في حصوله على عرش البلاد، فكان على دراية بالسياسة العثمانية تجاه السلطنة الشريفة. إذ بعيد توليه العرش وصفه مراد الثالث بالحاكم «عديم القيمة»،[فرن 20] ودعم كل من الأميرين داود وإسماعيل للإطاحة به.[26]
نهجت الدولة العثمانية بعد ذلك سياسة تقارب مع أحمد المنصور، ففي رسالة مؤرخة في شهر يوليو من سنة 1580م، دعى مراد الثالث أحمد المنصور لإقامة تحالف هدفه استرجاع الأندلس، واقترح عليه لذلك ثلاثمائة سفينة والآلاف من مقاتلي النخبة،[إسب 2] كما اقترح عليه أن يزوِجه إحدى بناته.[إسب 3] لا توجد أية معلومة عن رد أحمد المنصور على هذه المقترحات ويفسر البعض ذلك إلى إدراك المنصور لتشتت المجهود الحربي العثماني على عدة جبهات أبرزها الحرب مع الصفويين منذ سنة 1578م إلى غاية 1590م.[104]
بلغت التوترات ذروتها سنة 1581م، حين أمر السلطان العثماني مراد الثالث أمير البحار علج علي باشا بقيادةِ أسطول من ستين سفينة وثمانية آلاف رجل لفرض الهدوء بالجزائر والإضرار بمصالح المنصور.[فرن 21] وصل علج علي باشا إلى مدينة الجزائر في شهر يونيو من السنة نفسها،[105][فرن 22] فيما تحصن السلطان أحمد المنصور بفاس وأحاط بالجيش نفسه وأعد العدة وحصن الثغور والموانئ وسلم قيادة ميناء العرائش لأقرب معاونيه إبراهيم السفياني.[فرن 23] ساهمت دبلوماسيته في إنهاء النزاع من خلال النجاح في الاتفاق على هدنة بين القوتين الإسلاميتين رغم الضغوط التي مارسها علج علي باشا على الوفود المغربية التي كانت في طريقها لإسلامبول. وساهمت في نجاح الهدنة واستمرارها عوامل منها وباء فتاك وحالة عدم الاستقرار السياسي شهدتها إيالة الجزائر، وثورة عارمة في شبه الجزيرة العربية ببلاد الحرمين الشريفين أوكلت مهمة إخمادها لعلج علي باشا الذي غادر ومن أتو معه الديار المغربية، لكن الدور الكبير في إعادة العلاقات الطيبة بين الدولتين لعبه جيكالة باشا. أتبع ذلك أمر السلطان مراد الثالث ممثليه في طرابلس الغرب والجزائر أن يخصوا سفراء المنصور بالاحترام والتقدير، وابتداءًا من سنة 1583م أصبح يُشار لأحمد المنصور في المراسلات الإدارة العثمانية بالإمام والسلطان والخليفة.[برت 2]
عادت التجاذبات مرة أخرى بين الدولتين في السنة نفسها بعد غزو أحمد المنصور قصور الصحراء جنوب إيالة الجزائر وسيطرته على تجارة القوافل. لم يكن في استطاعة مراد الثالث الرد على تحركات المنصور، فالدولة العثمانية كانت غارقة في الحروب والمواجهات في كل من فارس والبلقان والحجاز والمحيط الهندي، فأسند المهمة لممثله بكلربك الجزائر، فسير هذا الأخير حملة عسكرية ضد التواجد المغربي جنوب الإيالة، فتوجه نحو فكيك لقطع الصلات بين مناطق محل النزاع وبين المغرب لكن حملته باءت بالفشل.[106] أتبع ذلك إقامة المنصور لتحصينات جديدة بقصور الواحات الرئيسية وتخصيصها بحامية دائمة، وضمان الولاء الديني والقبلي لأعيانها عبر إعفائهم من الضرائب والتكرم عليهم، كما راسل بعض الساسة العثمانيين في الجزائر وإسلامبول فتمكن من رشوة عدد كبير من وجهائهم الذين أصبحوا سفراء لقضيته.[107] انتهت الخلافات بعد أن حول السلطان مراد الثالث إيالة الجزائر بعد موت علج علي باشا من بكلبركية إلى باشوية يرأسها باشا يعين لمدة ثلاثة سنوات وهي مدة وجيزة منعتهم من بلورة سياسة نوعية مؤِثرة على المدى البعيد.[فرن 24][فرن 25]
استعادت العلاقات مسارها الطبيعي في السنوات الخمس الأخيرة من حكم مراد الثالث، وتحسنت تحسنًا كبيرًت ملحوظًا خلال عهد السلطان محمد الثالث، ويظهر ذلك من خلال تبادل عدد كبير من السفراء ومن العلاقات الرسمية الأخوية التي جمعت القوتين إذ أرسل المنصور في ذي القعدة 998 الموافق لسنة 1590 سفارة للباب العالي يدعوه فيها إلى توحيد الصف للقيام بحركة جدية لصالح مسلمي الأندلس.[108] يرجع البعض هذا التحسن لظروف السياسية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية من حرب الثلاثة عشر عامًا، والحرب مع الصفويين، وتمردات الإنكشارية والسباهية، وثورة ولايات الأفلاق والأردل والبُغدان،[109][110] وهي ظروف ساعدت المنصور، ففي الرسالة الأولى التي بعث بها إلى الباب العالي على إثر صعود محمد الثالث إلى الحكم، أسبغ على نفسه كل الألقاب الخليفية ذات العلاقة بالسيادة في حين لم يستعمل سوى لقب السلطان للحديث عن العاهل العثماني، بل إن الدولة العثمانية أصبحت عنده مجرد إيالة أي مملكة أو مقاطعة لا تستطيع ادعاء أي وضعية متميزة.[111]
وأرسل السلطان الشريف زُمْرَة من الدعاة للمشرق متخفين في زي حجاج وعلماء وتجار، منهم أحمد الوجاني، وأحمد الماسي، وسعيد الماغوسي، وأحمد بن عبد الجليل، وعلي التمڭروتي، وأحمد بن القاضي،[112] تلخصت مهمتهم في تعزيز العلاقات مع الأقطاب الدينية والمعارضين السياسيين وزعماء القبائل الداخلين تحت جناح الدولة العثمانية. كما تبادل السلطان الشريف مئات الرسائل مع عدة علماء تناولت موضوعات مختلفة،[وب-عر 8] وأغدق عليهم العطايا وأقام لهم احتفالات استقبال فخمة في المغرب.[111] نجحت سياسة أحمد المنصور حيث حصل على دعم عدد كبير من مشايخ مصر والحجاز الذين سجلوا في حقه شهادات تنويه قيمة،[100] ومن زعماء المناطق حدودية بين مصر وطرابلس الغرب، فاعترفوا بإمارته للمغرب الأقصى بل ووعدت بعض قبائل العربان أن تضع تحت تصرف السلطان الشريف أكثر من سبعة آلاف من فرسان البدو إذا ما عزم على غزو الإيالات العثمانية بشمال إفريقيا حيث أن يونس بن عمر صاحب إمارة بني عمر بصعيد مصر ساند السلطان الشريف ونشر فضائله بين السكان المحليين.[102][113]
وفي أواخر عهد المنصور هاجم باي (أي وال) تلمسان واحة فكيك وحاول فرض الضرائب على المناطق المحيطة بها فكتب السلطان بذلك إلى باشا الجزائر لتذكيره أن الواحة تابعة للسلطنة الشريفة طبقًا للاتفاقيات مع السلطانين مراد الثالث ومحمد الثالث وينبهه أن أي تحركات في المستقبل يمكن أن تؤدي إلى نتائج وخيمة.[114]
تنامت العلاقات المغربية الإنجليزية في عهد المنصور، ففي المجال الاقتصادي شكلت إنجلترا له موردًا للأسلحة وسوقا مفتوحًا لبيع منتجاته. توجت هذه العلاقة بعد ثلاثة سنوات من المفاوضات (1581-1584م) بإنشاء الشركة المغربية بهدف تنظيم التجارة بين البلدين.[فرن 26] وفي المجال السياسي دعم السلطان إنجلترا في صراِعها ضد إسبانيا وساند المطالب بالعرش البرتغالي الدون أنطونيو، إلا أن السلطان ما لبث أن أخلف وعده لهم بالتزام الحياد[فرن 27] سنة 1589م في معركة الأرمادا الإنجليزية تاركًا الإنجليز يعانون من خسائر فادحة متحججًا أن سفير الملكة لم يوضح تاريخ الحملة توضيحًا كافيًا.[115] تجمدت على إثر ذلك العلاقات السياسية بين البلدين لسبع سنوات انشغل فيها المنصور بفتح صنغاي، فيما تواصلت العلاقات التجارية والاقتصادية.
استؤنفت العلاقات في ديسمبر سنة 1596م إثر طلب المنصور من الإنجليز الإفراج عن أحد عشر خادمًا قُبض عليهم أثناء حملة النهب الإنجليزية الهولندية لميناء قادس،[فرن 28] أتبعها بعد أسابيع قليلة عرضه على ملكة الإنجليز تشكيل حلف ضد فيليب الثاني، لكنه لم يلق تجاوبًا كبيرا كما أُسلف لأن الإنجليز لم يجدوا في الدولة السعدية الشريك المثالي الذي كانوا يأملونه لأن المنصور كان يطلب من الإنجليز استجابة سريعة لمتطلباته في حين يعدهم في المقابل بوعود فضفاضة بل ويماطل تنفيذها، كما أن مشروع الشركة المغربية انتهى بالفشل.[إنج 14] كذلك فإن الإنجليز عرفوا عمومًا بازدواجية خطابهم الدبلوماسي، فقد تواصلوا مرارًا مع الدولة العثمانية مشجعين إياها على غزو المغرب الأقصى،[إنج 15] بل واقترح السفير الإنجليزي سنة 1603م بعد وفاة المنصور أن تغزو إنجلترا نفسها البلاد،[إنج 9] كما أن إنجلترا ظلت متخوفة أن تحالف الدولة السعدية تحالفًا مباشرًا ضد آل هابسبورغ، مما قد يحولها إلى دولة أوروبية منبوذة خصوصًا وأن إنجلترا كانت ما تزال بها أقلية كاثوليكية كبيرة آنذاك.[إنج 15]
أسر المنصور أربعة عشر ألفًا من الجنود البرتغاليين بعد معركة وادي المخازن افتدوا بمبلغ ضخم من الذهب،[116] حتى إن الناصري يقول أن ذلك هو السبب الحقيقي لتسميته بالذهبي.[117] كما أعلن البرتغاليون تنازلهم عن مدينة أصيلة سنة 997 هـ الموافقة لسنة 1589م وسلموها للمنصور سنة 1592م بعد أن خشي فيليب الثاني أن ينجد المنصور أحد المطالبين بعرش الإمبراطورية البرتغالية، إذ كانت البرتغال آنذاك قد أُلحقت بالتاج الإسباني.[100] كما حرص المنصور على الارتباط مع هولندا بعلاقات وثيقة بعد انفصالهم عن الإمبراطورية الإسبانية، بل وكانت الدولة السعدية أحد الدول الأولى التي ارتبطت معها بعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة، إذ استوردت هولندا السكر والزيت واللوز والعسل والشمع والجلود وصدرت الأسلحة والأقمشة. كما حرروا أسرى مغاربة بعد غزوتهم لقادش،[118] وهي غزوة أراد الإنجليز إخفاءها على السلطان المنصور. إلا أن الهولنديين أصروا على مشاركة الأسطول السعدي في الحملة. وقد حدث فعلا أن شاركت بضع سفن سعدية في السيطرة على قادس سنة 1596 [فرن 29] إذ كانت هولندا تنوي تسليم المدينة للسلطنة الشريفة تمهيدا لاسترداد الأندلس.[إنج 10]
وكان من بين المهنئين بنصر وادي المخازن مملكة فرنسا إذ طلب سفيرها ثلاثة أمور: السماح للتجار بدخول الموانئ المغربية لتصدير البارود، تحرير أسرى فرنسيين وأن تقترض من الدولة السعدية مائة وخمسين دينار واستجاب المنصور لتلك المطالب مقابل تحرير أسرى مغاربة وبعد أن تأكد أن سفن الفرنسيين تجارية بحتة.[119] كما أجرى المنصور عدة اتصالات مع البلاط الفرنسي للتحالف معها وتقسيم ممتلكات إسبانيا بالعالم الجديد.[فرن 30]
انبرى المنصور إلى إحياء المنظومات الإدارية المخزنية المتهالكة، فكان أن أحيى نظام تعمية المراسلات وخصص له قسمان: الأول للترميز والثاني لفكه،[120] وجعلهما جزءًا من ديوان الإنشاء الذي يضم إلى جانب القسمين السابقين مصلحة المراسلات، ومصلحة الختم، ومصلحة اللغات والترجمة، وكان يعمل بهذه الأخيرة العشرات من الناقلين والمترجمين من أصول مختلفة، فكان منهم الأندلسيين والعلوج والأتراك واليهود وحتى الأوروبيين المسيحيين.[121]
حاول الذهبي الدمج بين العنصر العربي والعلجي، فعين العرب على قيادة عساكر الخيل وعين العلوج على جيش النار (جيش الأندلس) والأمور الخاصة بالمُلك.[122] كما اتخذ من بعض الزعامات القبلية المحلية كبار مستشاريه.[123] وفي عهده احتكرت أسرتان ذات أصل أندلسي هما آل الغساني وآل بن سودة مناصب الإفتاء والخطابة والقضاء،[124] كما اتخذ على غرار الموحدين والمرينيين والوطاسيين مجلس شورى أطلق عليه اسم المجلس السلطاني ثم بُدلِّ اسمه إلى الديوان،[125] وكان يرأس كل جلساته التي تنعقد أيام السبت والاثنين والأربعاء من كل أسبوع.[126] وفي المجال القضائي خصص المنصور أيام الاثنين والجمعة لاستقبال شكاوى رعاياه، خاصةً تلك المرفوعة ضد رجال السلطة،[127] مع تكليف كبار الأعيان بتتبع المظالم يوميًا وبالبحث في الملفات التي لم يجد الوقت الكافي للنظر فيها. وجرى تعيين قاضي جماعةأ[›] على رأس المدن المهمة وجرى تعيين القضاة كما كان الأمر عهد من سبقه من سلاطين بموجب ظهائر.[128]
لعب أصحاب مهنة العدول ب[›] الذين كانوا يتمركزون في الغالب قرب دار القاضي دورًا حيويًا في عمل القضاء المغربي بُعيد تمام الفتح الإسلامي واستقرار الإسلام في البلاد، واستمر عملهم على قدر كبير من الأهمية خلال عهد المنصور، فكانوا يشهدون على العقود ويوثقوها، كعقود الزواج والطلاق والميراث والهبات والمعاملات التجارية والدعاوى، وكانوا يتلقون أجورهم من طالبي الخدمة.[129]
شهدت الدولة في عهد المنصور الذهبي نشاطًا وتطورًا اقتصاديًا واسعًا شمل كل النواحي الزراعية والصناعية والتجارية.[141]
أسند المنصور الأمور للأخصائيين العالمين بتضاریس وتربة البلاد، واعتنى بزراعة السكر؛ فخصص أراضٍ رحبة لزراعته بحيث لم تعد قاصرة على منطقة سوس، وإنما انتشرت في بلاد حاحا وشيشاوة القريبة من مراكش، كما سهر على توزيع الأراضي الزراعية على القبائل، واهتم بالريِّ وسقي الأراضي الزراعية عن طريق استغلال الأودية؛ فنشطت زراعة الحبوب والأشجار المثمرة، ورعي الماشية وتربية الخيول، وعم الغرس والخير في البلاد حتى اكتفت الأسواق الداخلية وأصبحت الدولة تُصدِّر مَنتُوجَاتها للخارج.[وب-عر 10]
حرص المنصور على الحد من استيراد المنتوجات الصناعية الأجنبية وتشجيع الصناعة المحلية.[إنج 17] واهتمَّ السلطان بصناعة السكر، وأنشئ له مصانع ضخمة في كل من تيدسي وتارودانت وشيشاوة وحاحة،[142][فرن 32] وذلك من أجل الاستغناء عن أساليب الاستغلال التقليدية السائدة منذ عهد والده، وسعى لتوفير موارد مالية إضافية تعفيه من اللجوء إلى الجباية، منتفعا من جودة تربة بلاد سوس ومن ملاءمة مناخها.[143] حيث استفادت زراعة السكر من ظروف الاستقرار بعد أن قمع المنصور ثورتين نشبتا ضد الصناعة الجديدة،[143] فنمت هذه الصناعة الضخمة في عهده فكانت تزود وتمد الأسواق الداخلية بما تحتاج إليه من السكر، وأصبح يصدر الفائض الذي وظفه في مبادلاته مع الدول الإيطالية وفرنسا، وخاصةً إنجلترا حتى أضحى السكر يتبوأ المرتبة الأولى في قائمة الصادرات ويدر على الخزينة مداخيل مالية هامة.[144] وسخَّر السلطان تلك المداخيل في تغطية حاجيات الدولة من أسلحة ومستلزمات بناء سفن.[145]
كما اهتم بالصناعة التعدينية فضاعف إنتاج الفضة والنحاس في الأطلسين الكبير والصغير، والحديد في نواحي تافيلالت ودبدو ومليلية، والقصدير بضواحي سلا، وفاضَ في عهده الذهب حتى صارت المعاملات وأداء الرواتب به وكُنِي بالذهبي لوفرة الذهب. كما أنه أنشئ مصانع للأسلحة تركز جلها في جهة مراكش عملت على إنتاج البنادق ومدافع الزمن الحديثة، وأخرى لصناعة السفن في الموانئ المغربية، وازدهرت في عهده الحرف من صناعة الملابس والمنسوجات والسجاد والصوف والخشب والزجاج والورق والحلي والنحاس والجلود وغیرها،[141] فاشتهرت بلاد دكالة بمصنوعاتها الصوفية الجيدة، من ملبوسات كالجلاليب والسلاهم والحياك والمفروشات كالحنابل والزرابي، وتكاثر عدد الصناع في المدن وانتظموا في حرف يرأسها أمناء يسهرون على جودة الإنتاج ويفصلون في الخلافات التي تقوم بينهم، حتى الأطباء والصيادلة كان لهم أمناء يسهرون على عملية مراقبة الجودة وعلى عملية منح الرخص لصنع الأدوية بعد التثبّت من الخبرة المهنية فأصبحت الصناعة في عهده تدر أرباحًا عظيمة.[وب-عر 10]
نمت التجارة الداخلية بين المدن والقرى بفضل الأمن وتنظيم طرق المواصلات وضبطها، وأُنشِئَت في عهده طرق أخرى جديدة تربط بينها وبين أسواق بلاد السودان التي كان أكثر ما يلقى رواج فيها السكر والأواني المعدنية ومعادن النحاس والقصدير والحديد.[146] أمَّا في التجارة الخارجية فجرى تصدير السكر وملح البارود والذهب والجلود والشمع والحبوب والفواكه اليابسة والصوف والتمر واللوز والعسل والصمغ والنيلة وریش النعام وقضبان الحديد والنحاس والقصدير لأوروبا، واستيراد الأسلحة وبعض ما يلزم في صناعتها، وكانت إنجلترا تعتبر الشريك الاقتصادي الأول للدولة السعدية حينئذ.[وب-عر 10][147]
ضرب المنصور دينارًا ذهبيًا باسمه، واستبدل ما سبقه بالذهب فصارت المعاملات والأجور والمعاشات والهبات والهدايا تأتي ذهبًا. شكل مدخول تجارة السكر 33% من مدخول خزينة الدولة،[وب-عر 10] بينما شكلت الضرائب 50% من مجموع المداخيل، وتعددت الضرائب في زمنه، منها الشرعية المعتادة كالزكاة والأعشار والجزية والخراج، وأخرى قديمة مستحدثة وهي ضريبة النايبة التي تطورت في زمنه من ضريبة عينية إلى ضريبة نقدية. وبالرغم من القيمة النقدية التي اكتسبتها عملة المنصور إلا أن عهده عرف سنوات من الغلاء المفرط نتيجة لارتفاع الضرائب وكثرتها حتى أن البعض رحب بثورة الناصر.[148] رغم ذلك فإن عهده عرف فترات ازدهار ورخاء شامل.[148] واستفادت العملة المخزنية افتداء أسرى معركة وادي المخازن ونتائج فتح السودان وتنشيط الصادرات بالاعتماد على السكر وتحويل الضريبة من عينية إلى نقدية فارتفعت سيولتها.[149]
نشطت حركة العمران في عهد أحمد المنصور في شتى أنحاء المغرب، وظف خلالها عائدات التجارة والتبر المجلوب من السودان في تشييد وتوسيع وتجديد المنشآت العمرانية الدينية والعلمية والعسكرية في مختلف أنحاء البلاد، واهتم بالجانب الجمالي فيها، فوصف ما حصل في عصره بالنهضة السعدية.[وب-عر 11] أقيم في عهده مسجد باب دكالة ووُسِّع ضريح السعديين، وكان أعظم ما شيد قصر البديع الذي لم يُبنَ مثيله وعديله قبلًا، في هذه البلاد والذي عد من عجائب الدنيا ذلك الزمن.[وب-عر 12]
مشهد لقصر البديع سنة 1640م الموافقة لفترة حكم السلطان محمد الشيخ الأصغر، من طرف أدريان ماثام، في الأعلى كتابة باللغة اللاتينية: «القصر العظيم - المملكة المغربية» |
أنشأ أحمد المنصور إلى جانب ما سلف ذكره، ثلاثين قصبة وحصنًا اخترقوا طول البلاد وعرضها،[151] وجدد الكثير منها. فأنشأ حصن النصر، وحصن الفتح في العرائش، وجدد ورمم قصبة الوداية وزاد فيها حصنين بارزين وعزز قصبة تازة ببناء حصن بارز يأوي المدافع، وشيد تسعة حصون بفاس منها برج النار وبرج الجنوب، وأعادَ ترميم قصبة العاصمة مراكش، وشيد على بعد خمسة عشر كيلومترًا جنوبها قصبة أسماها قصبة القاهرة ثم بنى أخرى سميت بقصبة تاجداشت.[152] وطالت عمليات التشييد والترميم بعض البنيات التحتية. كذلك بنى المنصور قنطرة سبو بفاس، وجدد قنطرتي تانسيفت ووادي أم الربيع وأقام سدين بوادي بوطوبة.[153]
استفاد المنصور من المنشآت التعليمية المرابطية والموحدية والمرينية التي كانت لا زالت قائمة، بالإضافة لأخرى أنشئها السلاطين الأشراف ممن سبقه، فاهتم بها المنصور حتى ازدهر العلم في زمنه ازدهارًا عظيمًا بالغًا ذروة سنام العهد السعدي. تجلى ذلك في تزايد معاهد العلم والدراسة، وفي كثرة العلماء وطلبة العلم، وتعدد مجالات اختصاصهم،[154] وظل الطابع العلمي من أهم مميزات عهده، إذ كان يرعى العلماء والمتعلمين، ويعقد المجالس العلمية العامة والخاصة في أوقات معلومة لا تتخلف، يحضرها علماء دولته من الشمال والجنوب، فيغدق عليهم من الصلات والعطايا ما حفلت به كتب التاريخ والتراجم.[5]
كانت المرحلة التعليمية في عهد المنصور تبدأ مع بلوغ الطفل سن التمييز، أي بين الخامسة والسادسة، فيتلقى مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القران على يد الفقهاء بالمسيد، وهي كتاتيب كانت منتشرة في جميع أنحاء بلاد المغرب الأقصى بحيث لا تَخلو منها أي قرية وإن صغرت،[وب-عر 16] ثم مرحلة المدرسة وهي تتواجد في كل قبيلة واحدة أو أكثر فإن كانت القبيلة كثيرة الأفخاذ، فإن كل فخذ يبني مدرسته على حدة، وهذه المدارس كانت تسمى مدارس علمية تمييزًا لها عن الكتاتيب القرآنية،[155] ثم مرحلة التعليم المشترك في الجامع حيث يتلقى طالب ما يرضى وشاء من العلوم النقلية، مثل علم التفسير وعلم الحديث والفقه والتصوف والتاريخ (تحت عدة مسميات وتصنيفات علم المغازي وعلم الشمائل وعلم التراجم وعلم أخبار الزمن) وعلم الأدب وعلم القراءات ويضم كلًا من علم التجويد وعلم الرسم القرآني وعلم الضبط، كما دُرِّست العلوم العقلية مثل الفلسفة والرياضيات والمنطق والفلك والطب بعضها في كيانات منفصلة عن الجوامع.[156] تنتهي هذه المرحلة بحصول الطالب على الإجازة، وهي صنفين عامة وخاصة، ولكل صنف فروع تخول مثلًا لطالب العلوم النقلية أن يصبح فقيهًا سواء في المسيد أو الجامع مع حظوة كبيرة لتولي القضاء والافتاء ومراكز أخرى في سلك وظائف المخزن.
تعددت المراكز العلمية زمن أحمد المنصور وزادت أفاق التدريس والتحصيل فيها، أهمها فاس التي ضمَّت كل من مدرسة الصفارين ومدرسة دار المخزن (مدرسة فاس الجديد) ومدرسة الصهريج ومدرسة السباعين ومدرسة العطارين والمدرسة المصباحية والمدرسة البوعنانية وجامعة القرويين وجامعة الأندلس.[وب-عر 17] تلت مراكش فاس من حيث أهميتها العلمية، وتمثلت بكل من مدرسة ابن يوسف ومدرسة جامع الشرفاء ومدرسة جامع الأشراف،[وب-عر 18] ومدرسة القصبة[وب-عر 18] ومدرسة جامع أبو العباس السبتي،[وب-عر 19] كما عرفت كبريات مساجدها نشاطًا علميًا واسعًا وغدت زمن المنصور سوقًا للمعارف النافذة ومنبعًا للعلم في الديار المغربية.[157] ثم تارودانت التي ضمت إلى جانب المدارس والمساجد الصغرى ثلاثة جوامع كبرى للتدريس، هي جامع القصبة والجامع الكبير[وب-عر 20] وجامع سيدي وسيدي. ودُرِّس فيها وفق نظام الكراسي العلمية.[وب-عر 21]
كما مارست الزوايا مهام تعليمية وتحولت زمن أحمد المنصور إلى مراكز علمية نشطة وكان لها الفضل في نشر العلم وازدهاره، ومن أشهرها الزاوية الجزولية،[وب-عر 22] والزاوية الدلائية وزاوية تيدسي والزاوية التمصلوحتية وزاوية سيدي علي والزاوية الناصرية.
وظهر في زمن أحمد المنصور إتيان هُبير الأُرليانشي الذي يعتبره البعض أول مستشرق. تعلم اللغة العربية في مراكش واشتغل طبيبًا لدى المنصور ثم أستاذًا للغة العربية في كلية فرنسا.[ألم 1][إنج 18]
بدأ المنصور تنظيم الجيش بعد توليه الحكم مباشرةً، فأخذ في ترتيب الجيوش وضبطها متميزًا بذلك عن الجيش العثماني، فكان الجيش في عهده خمسة جيوش: جيش سوس، وجيش شراڭة، وعسكر الأندلس،[162] وجيش العلوج المقتبس من الإنكشارية،[25] وجيش عرب الدولة. وعمل على التركیز على التفوق والكفاءة والتجهیزات ولیس العدد فقط،[163] ولتحقيق ذلك عمد إلى إنشاء مصانع للأسلحة تركزت معظمها في جهة مراكش عملت على تزويده بالبنادق والمدافع (منها المكحلة ومدفع ميمونة)،[164] وجرى في عهده تجارة مقايضة الأسلحة من إنجلترا مقابل ملح البارود.[141]
عمل المنصور على بناء أسطولٍ بحريٍّ، فأسس لذلك دورًا لصناعة السفن بالموانئ المغربية، واستورد بعض ما يلزم في صناعتها من أشرعة وخشب من إنجلترا، واشترى بعضها جاهزًا،[165] وعين على رأس الأسطول الريِّس إبراهيم الشط، [166] الذي تمكن في أواخر عهد المنصور من اكتشاف المحيط الأطلسي حتى وصل إلى الأرض الجديدة (كندا حاليا).[167]، وشارك في غزو مدينة قادس الإسبانية إلى جانب الإنجليز والهولنديين.[إنج 10]
وفي وصف مكانة المؤسسة العسكرية بالمغرب يقول أحمد المنصور:
كان السلطان أحمد المنصور إلى جانب مشاركته الواسعة في العلوم اللغوية والشرعية، أديبًا شاعرًا ناثرًا، ورياضيًّا موهوبًا مواظبًا على دراسة أمهات كتب الحساب والجبر والهندسة لأقليدس وابن البناء المراكشي وأضرابهما،[5] وخطاطًا ماهرًا متقنًا للخط المغربي والمشرقي،[170] كما كانت حاشيته تكاد تكون كلها من العلماء والأدباء حتى قادة الجيش وولاة الأقاليم.[5] ومما ألف السلطان أحمد المنصور:
ترك صيت السلطان أحمد المنصور الذهبي وشهرته عبر حوض البحر المتوسط آثاره في مخيلة معاصريه،[197] فأُلِّفَت باسمهِ كتب عديدة تنيف عن المائة، منها:[198]
Seamless Wikipedia browsing. On steroids.
Every time you click a link to Wikipedia, Wiktionary or Wikiquote in your browser's search results, it will show the modern Wikiwand interface.
Wikiwand extension is a five stars, simple, with minimum permission required to keep your browsing private, safe and transparent.