Loading AI tools
فقيه حنفي صوفي من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
مصطفي بن كمال الدين البَكْري الصديقي (1099 - 1162 هـ / 1688 - 1749 م) فقيه حنفي صوفي،[1][2][3][4] جَمَع بين الطريقتين الخلْوتِيّة والقادرية،[5] وكان إضافة إلى تصوفه وفقهه أديب وشاعر ورحالة،[6] وإليه تنسب الطريقة البكرية الخلوتية – إحدى فروع الطريقة السهروردية – وهو يعتبر من أشهر مجددي الطريقة الخلوتية في الشرق الأوسط عموماً وفي مصر خصوصاً في أواسط القرن الثاني عشر الهجري.[7][8][9][10] ويصل إليه سند الطريقة الخلوتية الجامعة، والبكري نسبة إلى أبي بكر الصديق حيث يصل نسبه، وهو من الشام، من العائلات الثرية، ولد في عام 1688م/1099هـ في دمشق، تلقى العلوم الشرعية على يد عدد من المشايخ، ثم اتجه إلى النسك والتعبد والتصوف، فأخذ الطريقة الخلوتية على يد الشيخ عبد اللطيف الحلبي، عندما أصبح عمره 16 عاماً، ثم أذن له شيخه بالمبايعة والتخليف وعمره قرابة عشرين عاماً. بدأ بعد ذلك إلى السفر والترحال طلباً للعلم الشرعي، كجزء من التقاليد الصوفية المعروفة (السياحة في الأرض)، وقد زار عشرات المدن والمناطق، وساهم بنشر الطريقة الخلوتية في فلسطين وخصوصاً في القدس، ولبنان ومصر وتركيا والعراق والحجاز، وساهم بشكل غير مباشر عن طريق أتباعه وتلاميذه بنشرها بالمغرب العربي،[11] إلى أن توفي في مصر، وكان يسكن بجوار الجامع الأزهر، ودفن في القاهرة سنة 1749م/1162هـ.[12][13]
شيخ الإسلام | |
---|---|
مصطفى بن كمال الدين البَكْري | |
ضريح مصطفى البكري | |
معلومات شخصية | |
الميلاد | 1099 هـ / 1688م دمشق |
الوفاة | 1162 هـ / 1749م القاهرة |
مكان الدفن | القرافة الكبرى |
اللقب | القطب البكري، قطب الدين، قطب العارفين، محيي الدين، الجنيد الثاني، شيخ الإسلام |
الديانة | الإسلام |
المذهب الفقهي | الحنفية |
العقيدة | أهل السنة والجماعة |
الحياة العملية | |
تعلم لدى | عبد الغني النابلسي، وأبو المواهب الحنبلي |
التلامذة المشهورون | محمد بن أحمد السفاريني، ومحمد بن سالم الحفني، ومحمد بن سليمان الكردي، ومحمد بن عبد الكريم السمان |
مجال العمل | صوفية |
أعمال بارزة | السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد ، والعرائس القدسية المفصحة عن الدسائس النفسية ، والفتح القدسي والكشف الأنسي (ورد السحر) ، والدر الفائق في الصلاة على أشرف الخلائق |
التيار | الطريقة الخلوتية، والطريقة القادرية، والنقشبندية، والطريقة الأكبرية |
تعديل مصدري - تعديل |
بلغ عدد أتباعه ومريديه أكثر من مائة ألف بحسب ما ذكره ابنه "محمد كمال الدين".[ملحوظة 1] وقد عرضت عليه السلطات العثمانية منصب (قطبانية الشرق)[ملحوظة 2] فلم يقبله وعزف عنه، مفضلاً التفرغ للتأليف والدعوة والذكر.[14] وقد أفرد ابنه ترجمته بكتاب سمّاه (التلخيصات البكرية في ترجمة خلاصة البكرية) ذكر فيه بعض مزاياه وما كان عليه من الأحوال.[15] وخصص له يوسف النبهاني في كتابه (جامع كرامات الأولياء) ترجمة طويلة ذكر فيها عدداً كبيراً من مؤلفاته التي تقارب المائتين وأحزاب وأوراد أكثر من ستين.[16]
هو: مصطفى بن كمال الدين بن علي بن كمال الدين بن محيي الدين عبد القادر بن محمد بدر الدين بن محمد ناصر الدين بن أحمد زين الدين بن محمد ناصر الدين بن أحمد شهاب الدين بن ناصر الدين بن عوض بهاء الدين بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن الحسن بن موسى بن يحيى بن يعقوب بن نجم الدين بن عيسى بن شعبان بن عيسى بن عوض بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.[17][18]
يرجع نسبه من جهة الأب إلى الصحابي أبي بكر الصديق،[18] ويرجع نسبه من جهة الأم إلى الصحابي علي بن أبي طالب أو السبطين الحسن والحسين.[19][20][21]
وذكر نسبه إلى أبي بكر الصديق في مخطوطة (الخمرة الحسية في الرحلة القدسية) على النحو التالي: «أبو المعارف، قطب الدين مصطفى بن كمال الدين بن علي بن كمال الدين بن محيي الدين، بن عبد القادر بن بدر الدين محمد، نزيل دمشق بن ناصر الدين، محمد شهاب الدين بن ناصر الدين بن بهاء الدين، عوض بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن الحسن بن يحيى بن يعقوب بن نجم الدين أبي الروح، عيسى بن داود بن محمد بن نوح ابن الشيخ طلحة، سلطان مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بن السيد الإمام أبي محمد عبد الله ابن السيد الإمام المجتهد الصحابي أبي الفضل عبد الرحمن بن الإمام الأعظم، والخليفة الأكرم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بن عثمان أبي قحافة بن عمرو، وابن عامر بن سعد بن كعب بن قيم بن مرة جد رسول الله صلى الله عليه وسلم».[22]
لُقِّبَ بـ القُطب البَكْري، وقُطْب الدين، وقطب العارفين، ومحيي الدين،[23] وشيخ الإسلام.[10][24][25] ولقّبه حسن رضوان المصري بـ الجنيد الثاني في منظومته (روض القلوب المستطاب) فقال:[26]
اختُلِفَ في كُنيته، قيل: أبو المعارف، وقيل: أبو المواهِب، وقيل: أبو الفُتوح، وقيل: أبو محمد.[23][24]
ولد بدمشق في شهر ذي القعدة سنة 1099 هـ / 1688م، بخط باب توما، قبل وفاة والده كمال الدين بستة أشهر أو ثمانية، ونشأ يتيماً في حِجْر ابن عمه أحمد بن كمال الدين بن عبد القادر الصديقي، وبقيَ عندَهُ في داره الكائنة قُرب البيمارستان النوري.[27][28][29]
نشأ بدمشق، ورحل إلى القدس وعاش فيها جزءاً من حياته بعد زواجه فيها، وهذا ما ذكره غالبية المؤرخين، إلا أن الجبرتي في كتابه (عجائب الآثار) يرى أنه نشأ في القدس، حيث يقول: «نشأ ببيت المقدس على أكرم الأخلاق وأكملها، ربّاه شيخه الشيخ عبد اللطيف الحلبي، وغذَّاه بِلِبَان أهل المعرفة والتحقيق، فَفَاق ذلك الفرع الأصل، وظهرت به في أفق الوجود شمس الفضل، فبرعَ فهْماً وعلماً، وأبدع نثراً ونظماً، ورحل إلى جل الأقطار لبلوغ أجل الأوْطار، كما دأب على ذلك السلف، لما فيه من اكْتساب المعالي والشرف».[30]
ينتمي إلى آل البكري الذين يصل نسبهم إلى أبي بكر الصديق، وهم أسرة لها فروع في الحجاز ومصر والآستانة (اسطنبول) ودمشق. ووفقاً للباحثة ليندا شيلشر في كتابها (دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) فإن أسرة آل البكري مازالت تحتفظ بوثائق تعود إلى القرن الرابع للهجرة تؤكد صحة نسبهم.[31] ويذهب مؤرخ الأسرة إلى القول بأن آل البكري في سوريا يتفرعون عن أصل قديم في مصر، وأن أول من استقر في دمشق من أسلافهم جدهم "بدر الدين البكري" (نحو القرن الرابع عشر). أما سلسلة نسب الأسرة المتناثرة في كتب التراجم، فتشير إلى أن الذين برزوا في دمشق من آل البكري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ينحدرون من جد واحد عاش في القرن السادس عشر؛ وقد وصلوا إلى مكانة مرموقة في دمشق خلال العهد العثماني. في أواخر القرن السابع عشر، توطدت مكانتهم بفضل "أحمد بن كمال الدين البكري" (ت 1107 هـ/1695 م) الذي بلغ مرتبة عالية في القضاء، وأصبح قاضياً لدمشق، وهو منصب لم يشغله أي دمشقي من قبل. وأثناء توليه القضاء، انتقلت المحكمة الرئيسية في دمشق إلى دار آل البكري في البيمارستان النوري، كذلك تولى إدارة أوقاف المدرسة الجقمقية، وهي وظيفة استأثر بها آل البكري حتى عهد متأخر من القرن العشرين. أما ولده أسعد (ت 1715م) فقد تولى نيابة القضاء في كل من محكمة الباب والكبري. ويشير أصحاب كتب السير والتراجم إلى أنه كان شخصية سياسية بارزة، ووصفوه بأنه كان «مقبول الشفاعة عند الحكام... وصاحب الحل والعقد». وقد نفي إلى صيدا عام 1706م لأسباب سياسية. وفضلاً عما بلغه من رُتَبْ وناله من ألقاب، فقد منح أراض واسعة، وولي إدارة أوقاف عديدة في منطقة دمشق، كما شيد قصراً في الصالحية ودارة جميلة وحديقة جرمانا اتخذها مصيفاً له. وكان خليل بن أسعد البكري (ت 1173 هـ/1759 م) واحداً من كبار أعيان دمشق وقد أقام صلات قوية مع المؤسسة العثمانية حينما كان في إسطنبول برفقة أبيه الذي كان من مُريدي شيخ الإسلام فيض الله حسن ومشايعاً لشيخ الإسلام أبي الخير داماد زادة (ت 1154 هـ/1741 م). وقد تولى خليل الإفتاء في دمشق في الربع الأول من القرن الثامن عشر؛ ثم القضاء في كل من طرابلس والقدس ومكة ودمشق. وأثناء توليه القضاء في دمشق، انتقلت المحكمة الرئيسية إلى دار آل البكري من جديد. وقبيل وفاته، رحل إلى الآستانة (إسطنبول)، فشغل منصب القاضي الشرعي فيها، ثم قاضي عسكر الأناضول، وهي مرتبة لم يبلغها أي عربي من قبل. قاد في مستهل حياته ثورة دمشقية ضد الوالي "عثمان باشا أبو طوق" (سنة 1135 هـ/1723 م)، وكان يتولى الإفتاء آنذاك، وانتهت المسألة بعزل أبي طوق وتولية إسماعيل باشا العظم والياً على دمشق (في عام 1138 هـ/1725 م).[7][18][32][33][34]
أخذ العلم عن عدد من العلماء، منهم:[10][35] عبد الرحمن بن حيي الدين السليمي الشهير بالمجلد (ت 1140 هـ)، إذ قرأ عليه الآجرومية ثلاث مرات، ثم شرْحَها للشيخ خالد الأزهري، ثم الأزْهريّة، ثم قواعِد الإعْراب، ثم الألفية، وشرحها للأشموني، ثم الجزرية، ثم الأمالي. والشيخ أبو المواهب محمد بن عبد الباقي الحنبلي (ت 1126 هـ)، الذي قرأ عليه سنة 1115 هـ متن الاستعارات وشرحها للعصام، ومتن الجزرية، وشرحها للقاضي زكريا الأنصاري، ثم قرأ عليه شرح النخبة للعسقلاني، وحضر معه شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني. وأخذ أيضاً عن المُلّا إلياس بن إبراهيم الكوراني، والمحب محمد بن محمود الحبال، وأجاز له الشيخ محمد بن محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت، وأخذ عنه المسلسل بالأولية،[ملحوظة 3] ولازم الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، وقرأ عليه بعض مؤلفات ابن عربي مثل التدبيرات الإلهية، والفصوص، وعنقاء مغرب، ومواضع متفرقة من الفتوحات المكية وبعض الفقه،[36] وأخذ عنه الطريقة القادرية والطريقة النقشبندية التي أخذها أيضاً عن مراد الأزبكي البخاري النقشبندي،[27] كما أخذها في واقعة روحية عن أبي يزيد البسطامي، وأخذ الطريقة القادرية أيضاً عن يس القادري الكيلاني شيخ السجادة القادرية بحماة، وأخذ الطريقة الخلوتية عن الشيخ عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبي الخلوتي، وأخذ التصوف أيضاً عن محمد بن إبراهيم الدكدكجي وبه تخرج.[37]
من علماء الأمصار الذين أخذ عنهم وقرأ عليهم: الشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي بمكة المكرمة، والشيخ "علي قرة باش" في أدرنة، والشيخ "محمد التافلاتي" في الآستانة (اسطنبول)، والشيخ "محمد بن أحمد الحلبي المكتبي" في حلب، والشيخ نجم الدين بن خير الدين الرملي في الرملة في فلسطين، والشيخ "مصطفى الأدرنوي" في القاهرة، والشيخ إسماعيل العجلوني، و"عثمان بن الشمعة" وغيرهما في دمشق.[38]
مصطفى البكري بن كمال الدين الحنفي الدمشقي (1099-1162هـ) هو من أعظم شيوخ الإسلام ومحيي الطريق في القرن الثاني العشر الهجري حيث قيل أن عدد مريديه بلغ نحو المائة ألف وله نحو 222 تأليف، وخلف أكثر من عشرين خليفة جلهم من أكابر العلماء ومشايخ الإسلام وأئمة التربية، وكان هو المجدد الأكبر في عصره للطريقة الخلوتية، وصاحب الشيخ النابلسي وقرأ عليه كتب الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، وأخذ الطريقة القادرية عن السيد ياسين القادري الكيلاني شيخ السجادة القادرية بحماه وقد أفردت ترجمته في عدة كتب منها كتاب ولده أبو الفتوح محمد الذي سماه: [تلخيصات البكرية في ترجمة البكرية]. |
—عبد الباقي مفتاح [الإنجليزية]، أضواء على الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشار طريقته[39] |
وصل عدد تلاميذه وأتباعه إلى مائة ألف،[40] ولمّا بلغت تلاميذه مائة ألف أمر بعدم كتابة أسمائهم، وقال: هذا شيء لا يدخل تحت عدد.[41][42] ومن أشهر تلاميذه:[43] محمد بن سالم الحفني/الحفناوي (ت 1181هـ) وهو من أكبر خلفائه في مصر،[44][45] وعلي بن محمد العربي السقاط (ت 1183 هـ)، وعبد الحليم الشويكي (ت 1185 هـ)، ومحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (ت 1188 هـ)،[46][47] ومحمد بن عبد الكريم السمان [الإنجليزية] (ت 1189 هـ) مؤسس الطريقة السمانية،[48][49][50][51] ومحمد بن أحمد التافلاتي المغربي الأزهري الخلوتي (ت 1191 هـ) مفتي الحنفية بالقدس، كان شيخه من جهة وتلميذه من جهة أخرى،[52] ومحمد بن سليمان الكردي المدني شيخ الشافعية بالمدينة المنورة (ت 1194 هـ)، وأحمد بن محمد الباقاني (ت 1195 هـ)،[53][54] وعبد الرحمن الأجهوري الأزهري المالكي (ت 1198 هـ) وهو سبط القطب الخضيري، وأحمد بن موسى العروسي الشافعي الأزهري (ت 1208 هـ)، والقاضي حسن بن عبد اللطيف الحسيني مفتي الحنفية بالقدس في القرن الثالث عشر الهجري (ت 1224 هـ)،[55][56] بالإضافة إلى سبعة ملوك من طوائف الجان أسماؤهم محررة في بعض مؤلفاته.[27][57]
قال محمد زاهد الكوثري في كتابه (البحوث السنية عن بعض رجال أسانيد الطريقة الخلوتية): "وعنه أخذ شيخ الإسلام محمد بن سالم الحفناوي المتوفى سنة 1181 هـ، وعنه أخذ الشيخ محمود الكردي المتوفى سنة 1195 هـ،[ملحوظة 4] وعنه أخذ الشيخ عبد الله الشرقاوي المتوفى سنة 1227 هـ، وعنه أخذ الشيخ أحمد الدمهوجي المتوفى سنة 1246 هـ، والحفناوي والشرقاوي والدمهوجي ممن تولوا مشيخة الأزهر".[58]
خلّف مصطفى البكري آثاراً تربوية في المجال الصوفي، امتدّت عبر خلفائه المباشرين وغير المباشرين إلى معظم بلدان العالم الإسلامي، وتفرّعت من مدرسته طرق صوفية كان لها - ولا يزال - انتشار واسع وتأثير كبير في العالمين العربي والإسلامي؛ منها الطريقة التيجانية التي أسّسها أبو العباس أحمد التيجاني (1150 – 1230 هـ)، وأتباعها يُعدّون اليوم بعشرات الملايين. فأحمد التيجاني أخذ تربيته وسلوكه في القاهرة عن الشيخ محمود الكردي (ت 1195 هـ) تلميذ مصطفى البكري وتلميذ خليفته الأكبر في مصر محمد بن سالم الحفناوي (1101 – 1230 هـ).[50] وبواسطة محمد بن سالم الحفناوي تفرّعت في مصر والسودان وبلدان الغرب الإسلامي والشام فروع متعدّدة للطريقة الخلوتية.[59] ومن تلاميذ مصطفى البكري الإمام محمد بن عبد الكريم السمان [الإنجليزية] (1130 – 1189 هـ) الذي تفرّعت منه عدة طرق نشرها خلفاؤه الكثيرون في المشرق والمغرب وإفريقيا وآسيا.[ملحوظة 5] ومن تلاميذ الشيخ الحفناوي: محمد بن عبد الرحمن الأزهري (1126 – 1208 هـ) مؤسس الطريقة الرحمانية الخلوتية، الذي أصبحت طريقته أشهر طريقة في الجزائر وأوسعها انتشاراً. فحسب بعض الإحصائيات بلغ عدد الزوايا التابعة لها في الجزائر سنة (1299 هـ = 1882 م): 220 زاوية. وقامت هذه الزوايا بجهود كبيرة تربوية وتعليمية وجهادية في مقاومة الشعب الجزائري للاحتلال الفرنسي.[59][60]
اقتدى بعض شيوخ الخلوتية بالشيخ مصطفى البكري في نظم أشعار صوفية مبيّنة معالم السلوك؛ من أهمّها وأطولها منظومة: (روض القلوب المستطاب) للشيخ حسن رضوان المصري (1239 – 1310 هـ). وهي تتضمن أزيد من عشرة آلاف بيت، وطبعت بمصر سنة 1322 هـ بإشراف نجله الشيخ محمد أبي الفتح. وشيخه في الطريق هو الشيخ خالد علي (ت 1284 هـ) عن الشيخ إبراهيم العمراني عن الشيخ عبد العليم عن الإمام أحمد الدردير (1127 – 1201 هـ) عن الحفناوي عن مصطفى البكري. وفي منظومته هذه استشهد بأبيات من ألفية التصوف لمصطفى البكري، وخصص الباب الأول منها إلى بيان سنده في سلسلة الطريق، ولمّا وصل إلى ذكر الشيخ مصطفى وأنه أخذ عن الشيخ عبد اللطيف الخلوتي قال:[26]
وقد عزا المؤرخ والمستشرق العربي ألبرت حوراني في عرضه للاتجاهات الصوفية في القرن الثامن عشر، بروز الطريقة السمانية في الحجاز التي مهدت لبروز كل من الطريقة التيجانية في إفريقيا، والحركة المهدية في السودان، إلى تأثير مصطفى البكري.[18][61]
جَمَع بين الطريقتين الخلْوتِيّة والقادرية، وأخذ طرقاً أخرى كالطريقة النقشبندية والأكبرية، ودرس كتب محيي الدين بن عربي (ت 628 هـ) عند الشيخ عبد الغني النابلسي (ت 1143 هـ). وفي معظم كتبه ومؤلفاته التي بلغت نحو المائتين يظهر تأثره بابن عربي، كما في منظومته التي تتألف من أكثر من 1200 بيت في مصطلحات التصوف، اقتبسها من كتاب (الفتوحات المكية)، وذكر فيها أنه تلقن الطريقة النقشبندية عن روحانية أبي يزيد البسطامي (ت 261 هـ).[62] وقال في نهايتها:[63]
ووفقاً لأحمد فريد المزيدي فإن له «نسبة ظاهرية وباطنية إلى طريق النقشبندية والقادرية، ونسبة باطنية إلى طريق الشاذلية، وإنما اشتهر بالخلوتية».[64] وقد أثنى على الطريقة الملامتية في كتابه (العرائس القدسية المفصحة عن الدسائس النفسية)،[65] وحكى قصة غريبة حدثت له مع رجل في مدينة الخليل ممن يتبعون هذه الطريقة، وهذا الرجل يقال له: أبو جاعد، واسمه الشيخ محمد، قد حبس نفسه وامتنع عن الكلام عشرة أعوام، وكان يرتدي على رأسه خرقة البكتاشية،[ملحوظة 6] فسأله البكري بالإشارة عن طريقته الصوفية، فأشار له إلى إنها مطلقة غير مُقَيّدة، ثم أشار الرجل بيده نحو كتاب مجموع فيه بعض الرسائل من تأليف مصطفى البكري لكي يفتحه، ففتحه على موضع اللسان، فإذا أوائل الصحيفة تتحدث عن الملامتية، والرسالة هي (الوارد الطارق واللمح الفارق)، فقرأ له البكري بيتاً من أول قصيدة قالها فيهم، وهو:[66]
ثم أشار الرجل له بأن يطبق الكتاب، فقال له البكري: إذن أنت من الملامتية؛ ثم قال: «وعجبت من إشارته لذلك الكتاب دون غيره، وكون اللسان على ذلك المحل بخصوصه. وقد اتفق لنا معه غير هذه الكرامة، وذكرت بعضها أوائل (النحلة النصرية في الرحلة المصرية)، نفعنا الله به وبأمثاله».[66]
طريقته الصوفية الخاصة تعرف باسم الطريقة البكرية الخلوتية أسسها في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. تتميز طريقته بالالتزام بتعاليم القرآن والسنة النبوية والشريعة الإسلامية. كبار أئمة طريقته انخرطوا بشكل كبير في دراسة علم الحديث، وأصبح بعض تلاميذه من كبار شيوخ تدريس علم الحديث في الجزء الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي. وبعد وفاته تفرعت من طريقته طرق مختلفة كثيرة انتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي.[67][68][69]
خصص في كتابه (العرائس القدسية المفصحة عن الدسائس النفسية) فصلاً عن عقيدة محيي الدين بن عربي، نقل فيه نصوصاً من كلام ابن عربي توضّح عقيدته التي يتبناها، وأنها - من وجهة نظره - موافقة لمنهج أهل السنة والجماعة، وأنه بريء من مناهج وعقائد أهل البدع والضلالات؛ ثم بعد أن ذكر عقيدته قال: «فانظر رحمك الله في هذه العقيدة العزيزة السديدة المفيدة، واحذر بعدها الإنكار، وأوّل ما أُشكل من كلامه». ثم اقتبس فقرة من الطبقات الكبري للشعراني في الدفاع عن ابن عربي، ثم قال:[70]
” | وإذا ثبت دخول رجل في الإسلام، فإخراجه عنه والطعن فيه موجب لارتكاب أقبح الآثام. والحذر ثم الحذر من تكفير أحدٍ من أهل القبلة؛ فمن كفَّر مؤمناً فقد باء بالكفر، فكيف بمن نصَّ على تمكنه في درجات الولاية أكابر العلماء ونحارير الحكماء وأساطين التحقيق وسلاطين التدقيق، ولقبه الشيخ أبو مدين الغوث بسلطان العارفين... ومن ثبتت ولايته حُرمت محاربته؛ لحديث: «ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» أي أعلمته أني له محارب. وقد كان الشيخ عز الدين رحمه الله يحط على الشيخ، فلما صحب سيدي أبا الحسن الشاذلي صار يترجمه بالولاية والعرفانية والقطبانية. وقال الجلال الدواني: «وأما من يقول بكون الشيخ محي الدين بن العربي من الملحدين فجهله ينادي عليه بالإلحاد؛ حيث تكلَّم على من لا يصل إلى كُنه كلامه أساطين العلماء ونحارير الفضلاء، وعجزت أفكارهم عن فهم أسراره، والعجب أن تكلَّم بما لا يعلم حيث لم يعلم اصطلاحهم، ومن لم يعرف شيئاً أنكره». وفتوى صاحب القاموس في حل قراءة كتبه وإقرائها مشهورة، وقد ذكرتها مع فتوى ابن كمال باشا، وبعض فتوى الحافظ العسقلاني، وعبارة الهيتمي في شرحه على الهمزية في (السيوف الحداد)، وللسيوطي رحمه الله فيه رسالة سَمَّاها: (تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي). وجعل المذهب الذي ارتضاه فيها القول بولايته مع تحريم النظر في كتبه. | “ |
ثم تكلم عن بعض الناقدين لابن عربي كالسعد التفتازاني والبقاعي وقال إن لهم مقاصد حسنة وملاحظات مستحسنة.[70]
وخصص في كتابه (السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد) جزءاً لرد الشُّبه عن ابن عربي، قال فيه: «وممن أثنى على هذا الإمام الموصوف بأنه خاتم الولاية الخاصة المحمدية وبدرها التمام، شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث الأفخر، وسمّاه رضي الله عنه بالكبريت الأحمر والشيخ الأكبر»، ثم نقل الثناء عليه عن الشهاب السهروردي، والعز بن عبد السلام، وزكريا الأنصاري، وابن حجر الهيتمي، والسيوطي؛ وقال إن السيوطي ألّف رسالة في تبرئته من الكفر، سمّاها (تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي)، وكذلك علي بن ميمون وقال: إنه ألّف رسالة في مدحه والثناء عليه والحط على المنكرين. ثم نقل الثناء عليه عن الجلال الدواني وعبد القادر العيدروس في (النور السافر) وابن كمال باشا والفيروزآبادي صاحب القاموس، ونقل عباراتهم، ثم قال: «وقد أشبع صاحب القاموس القول في الرد على المنكرين، وذكر مقالات المعتقدين شيخنا الشيخ عبد الغني – قدس الله سره آمين – في كتابه (الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين)». ثم استشهد بقول أحمد القشاشي في آخر رسالته (وحدة الوجود) حيث قال: «فلو استقصى إنسان وتتبع مناقبه التي تُذكر بالسياق والتقريب في مصنفاته وفتوحاته، وما يُذكر فيها من غرائب أموره ومعايناته وحكاياته، وذكر مقاماته في كلامه من التجليات والهيئات لكان مجلدات». ثم ذكر بعد ذلك أبيات وقصائد مدحه بها، وثناء بعض العلماء عليه.[71][72] ومما قاله أيضاً في هذا الكتاب لكن في موضع آخر: «وقد ذكر الشيخ [الأكبر محيي الدين محمد بن عربي] عقيدته في أول فتوحاته [المكية]؛ ليرجع العارف إليها ما خالفها من ظواهر كلماته».[73]
له رسالة في توضيح معنى وحدة الوجود، سمّاها: (المَوْرد العَذب لذي الورود في كشف معنى وحدة الوجود) برأ فيها الصوفية من عقيدة الحلول والاتحاد، وحذّر من أقوال بعض المُدّعين المنتسبين زوراً للتصوف، فقال في مقدمة رسالته ما نصّه: "والذات الإلهية لها الغنى المطلق عن كل موجود... وتنزَّه (أي الله) عن سمات الحدوث...[ملحوظة 7] وقد كان سبحانه ولا شيء معه في الأزل...[ملحوظة 8] وحيث كان الوجود لله، ووجود الأشياء قائم به، مَوْجود بإيجاده، باقٍ ببقائه، فالوجود على الحقيقة له، لا لغيره، إذ هو - أي الحادث - هالك بالنظر لوجوده، ثابت الوجود بالنظر لموجوده، فبهذا الاعتبار غارت عيون الأغيار: قال تعالى: ﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ [غافر: 16]، لا يقصد أحد سواه. قال تعالى: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾ [البقرة: 115]، ليس له غير؛ خفي ولا بائن. قال تعالى: ﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن﴾ [الحديد: 3]، فلا أول إلا به، ولا آخر، ولا ظاهر، ولا باطن. بوجوده - أي الله - قام الوجود، وبدوام شُهوده ارتقى أهل الشهود؛ إذ هو قيوم السماوات والأرض، وقيام الكل به على التحقيق، لا التقدير والفرض، فيضُ وجودِه متجدّد على الدوام، ولولاه لانعدم العالم، واختل النظام".[74][75]
وهذه الرسالة عبارة عن حكم شرعي في مسألة وحدة الوجود، اعتمد فيها مصطفى البكري على القرآن والحديث النبوي والشعر العربي، واعتمد أيضاً على علم الكلام في تقسيم الوجود إلى قديم وحادث مع التركيز على منهج الذوق في المعرفة. ويحيل إلى ابن عربي وأثره على التصوف من بعده، والجنيد البغدادي، والشعراني، وإبراهيم الخواص، والحسن البصري، وأرسلان عارف الزمان، وعبد الغني النابلسي، ومحيي الدين النووي. ويحيل إلى عدة مصادر مثل (نصائح المريد)، (الفتوحات المكية)، و (الوصايا) لابن عربي، و (الجواهر والدرر) للشعراني. وهو يرى ضرورة تأويل شطحات العارفين لتتفق مع الشريعة لأن التمسك بالشريعة والعمل بميزانها هو مقياس صحة العقائد. ويرى أن الحقيقة مُقَيّدة بالشريعة، وأن علوم الحقيقة لا تعارض العقل ولا التمسك بالسنة النبوية. وسبب تأليفه لهذه الرسالة هو اختلاف الناس قديماً وحديثاً في وحدة الوجود بين موافق ومخالف، حيث يقول في مقدمة الرسالة: «قد ألّف الأعيان من أهل العيان، قديماً وحديثاً، رسائل في معنى وحدة الوجود، وأفصحوا عن المراد منها والمقصود، وحققوا أن العقول بها موافق لما عليه أهل السنة والجماعة القود، وجعلها البعض من العلم المضنون به عن غير أهله الباذلين في طَلَبِه المجهود. وقال آخرون: هي من العلم الواجب بَثّه، لمن يَطْلُب قرباً أن يسود. والأول اختيار السلف كالحسن البصري وأضرابه أهل العقود، وقَضيته مع فرقد السبخي شائعة مرفوعة البنود...».[76]
قسّم في كتابه (السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد) القائلين بوحدة الوجود إلى قسمين:[77]
وقال: «وأمّا قول أهل الحق القائلين بوحدة الوجود على الوجه الأحق، فإذا قالوا: ما في الوجود إلا الله مثلاً فمرادهم من حيث القيومية فإن به تعالى قيام كل شيء وهو القائم على كل نفس بما كسبت ومن حيث تجلِّيه وإمداده وتولِّيه، لا أن هذه الصور الحادثة الفانية المقيَّدة المحدودة وجوده، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً».[78]
خصص جزءاً في كتابه (السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد) في بطلان ونفي الحلول والاتحاد، قال فيه:[79][80]
” | قال سيدي محيي الدين - قدس الله سره - في الباب 252 (من الفتوحات المكية): «ومن أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم أن تعلم عقلاً أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها وإنما كان القمر مجلاها، فكذلك العبد ليس فيه شيء من خالقه ولا حلَّ فيه». وقد شرحنا قوله في الرسالة الغوثية التي تُنسب إليه: «الاتحاد حال، فمن آمن بالاتحاد الذاتي قبل وقوع الحال فقد كفر، ومن أراد التعبير عن هذا الاتحاد بعد الوصول إليه فقد أشرك» في الرسالة التي سميناها: (جمع الموارد من كل شارد). وقال في كتاب الجلالة: «وأن تسمع الاتحاد من أهل الله تعالى، أو تجده في مصنفاتهم، فلا نفهم منه ما فهمت من الاتحاد الذي قلنا فيه إنه من الموجودين؛ إذ ليس مرادهم من الاتحاد إلا شهود الوجود الحق الواحد المطلق، الذي الكل به موجود، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به معدوماً بنفسه، لا من حيث إن له وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال». | “ |
وقال أيضاً: «وقد رد على القائلين بالاتحاد والحلول سيدي محمد البكري، أحد الفحول في رسالته: (تأبيد المنة بتأييد السنة)»، ثم ذكر قصيدة قد قالها سابقاً أشار في آخرها إلى نفي الاتحاد والحلول وأمثالهما، قال في مطلعها:[81]
انتقد في كتابه (العرائس القدسية المفصحة عن الدسائس النفسية) الغلاة من الشيعة الذين يسبون الصحابة ويطعنون فيهم، ويتهمون السيدة عائشة في شرفها، فوصف هؤلاء بأنهم «ليسوا من شيعة آل البيت، وإنما هم من شيعة إبليس لعنه الله».[82] وقال في (رسالة الفرق المؤذن بالطرب في الفرق بين العجم والعرب): «واحذر من إفراط الخوارج وتفريط الشيعة». وذلك لأن الخوارج قد أفرطوا في التكفير حتى كفّروا علي بن أبي طالب والكثير من الصحابة، وأما الشيعة فقد فرّطوا في حق بعض الصحابة فرفضوا إمامة الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.[83]
ألّف في جواز الاحتفال بالمولد النبوي كتاباً سمّاه: (المورد الروي في المولد النبوي) ثم اختصره في كتاب آخر سمّاه: (الورد المنهول الأصفى في مولد الرسول المصطفى).[84][85] واستشهد في كتابه (بلوغ المرام في خلوة خلوتية الشام) بأقوال عدد من العلماء ممن يرون جواز الاحتفال به، وهم: ابن حجر الهيتمي، وابن الجوزي، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والسيوطي. وهو يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة وعمل محمود، وأن ليلة المولد النبوي أفضل من ليلة القدر.[86]
ومن أعظم كراماته: كثرة مؤلفاته نظماً ونثراً مع اشتغاله بالطريق والأسفار في الأقطار وأنواع العبادات والاجتماعات مع الناس. |
—يوسف النبهاني، جامع كرامات الأولياء[87] |
ذكر الجبرتي في تاريخه أنه لما سافر إلى إسلامبول (إسطنبول) ومكث فيها سنة ولم يؤذن له بالرحيل، ولم يدري ماذا يفعل، فلما جاءت آخر السنة قام ليلة فصلّى على عادته صلاة التهجد، ثم جلس لقراءة ورد السَحَر (ورد يتلى في وقت السَحَر قبل الفجر)، فأحبّ أن تكون روحانية النبي محمد في ذلك المجلس، ثم روحانية خلفائه الأربعة والأئمة الأربعة والأقطاب الأربعة[ملحوظة 9] والملائكة الأربعة،[ملحوظة 10] فبينما هو في أثنائه إذ دخل عليه رجل فشمّر عن أطراف ثوبه كأنه يتخطّى أناساً في المجلس حتى انتهى إلى موضع فجلس فيه، ثم لما تم الورد قام ذلك الرجل فسلّم عليه ثم قال: ماذا صنعت يا مصطفى؟ فقال له: ما صنعت شيئاً، فقال له: ألم ترني أتخطى الناس؟ قال: بلى إنما وقع لي أني أحببت أن تكون روحانية من ذكرناهم حاضرة، فقال له: لم يتخلّف أحد ممن أردت حضوره، وما أتيتك إلا بدعوة، والآن أذن لي في الرحيل، والرجل المذكور هو الولي الصوفي محمد التافلاتي؛ وقد رأى مصطفى البكري النبي محمد في المنام فقال له: من أين لك هذا المدد؟ فقال: منك يا رسول الله، فأشار أن نعم، ولقي الخضر ثلاث مرات.[88][89]
ذكر الكثير عن كراماته في الكشف والكلام على الخواطر، وأهمها برأينا أنه كان ينفق الكثير ولا أحد يعلم أن له دخلاً. |
—ميعاد شرف الدين الكيلاني، الرحلة العراقية (عام 1139 هـ/1726 م)[90] |
وقال المفتي حسن بن علي شمة المكي المصري[ملحوظة 11] في كتابه الذي ألفه في مناقب شيخه محمد بن سالم الحفني وعنوانه (منتهى العبارات فيما للأستاذ الحفني من الكرامات): «أخبرني أستاذي عنه (أي عن مصطفى البكري) أنه جمع مناقب نفسه في مؤلف بلغ نحو أربعين كراساً تسويداً في الكامل ولم يتم. قال: وأخبرني من أثق به أنه كان إذا مشى على أرض فرش له بساط من نور يمشي عليه، حتى سار مع بعض أولياء عصره مرة، فخلع ذلك الولي نعله فقال: لم فعلت ذلك؟ قال: أستحي أن أمشي على بساط كرامتك بنعلي».[91][92]
عند سفره من دمياط إلى يافا عن طريق البحر ركب في سفينة تدعى «الشيطية» وجلس في القمرة التحتية. وقال: «عددت نزولي فيها من الذنوب السوالف، حتى جرى الدمع على الخدود والسوالف، ولقد كنت أتطير من النزول في المغفر، لما أسمع من تعاطيهم المنكر، ولما عرف مستأجر المركب قبطانه فينا، أخذ يلاطفنا ويصافينا، حتى أنه أذاب ماء وسكراً ممزوجاً بماء الليمون، وأتاني به فلم أقبله خوفاً من نجاسة الماعون، فنادى المستأجر وأخبره بطهارته، فأعلمه بعدم شربه، ومن مهارته أمره أن يغسل آنية، وأن يتعاطى تذويب السكر بيده علانية، ففعل كما أمر وجاءني بها الريس، وأظن اسمه عمر، فشربت بعض شربي، حيث طاب قلبي، وصار يتلطف بي، ويدعي ودي وحبي، وأنا بريء منه ومن وداده، وفي غنية عن حبه وانقياده». ونام أول ليلة وهو يأمل سرعة الوصول إلى يافا، فتراءى له في المنام أحد شيوخ دمشق، واسمه: "أحمد سراج"، ونشر أصابعه الخمس، فاستفاق الشيخ البكري مذعوراً، وعلم أن المراد هو الإقامة في البحر خمسة أيام، وأصابه الضيق لطول الإقامة في البحر من أمر النجاسة لأن أهل السفينة كانوا غارقين في شرب الخمر. وفي ليلة الخميس ويومه، طالت محنة مصطفى البكري ومن معه، فتوسل بالسيد أحمد البدوي أن يسوق له صبيحة الجمعة الريح الملائم ليخلص من القبطان وجنوده؛ وجاءه القبطان يشكو قلة الماء، وأقسم بدينه أن الماء لا يكفيه غير اليوم فقط مع التدبير، ولم يبق عنده إلا أواني الخمر. فغضب مصطفى البكري من كلامه وتأثر، وقال للمستأجر (وكان هو الترجمان بينه وبين القبطان): إن الله سيسهل بالفرج ويزول الضيق، فقال له: قل له يأمر الركاب يجتمعوا ويدعوا الله عسى يجيب. فأجابه مصطفى البكري قائلاً للترجمان: قل له إن في هذا اليوم المبارك بعد الظهر بيسير، يأتي الريح وتدخل يافا قبل الغروب، ولا أبات الليلة الداخلة إلا في يافا ذات الوجه النضير. ففهم القبطان ذلك وسرَّ ولم يقطع بقول الشيخ. ولما زالت الشمس هب النسيم، ثم زاد على المعتاد حتى كادت السفينة أن تطير في المسير، وخاف البكري من تأنيب القبطان، لكن بعض وقت قصير ظهر البر وزال الضيق، ووصلوا سالمين.[93]
بسبب اندماجه في الطريقة الخلوتية التي تتطلب منه زيارة المُنتسبين لها، ولأجل رغبته في تلقّي العلم، والبحث عن المعرفة، كثُرَت رحلاته إلى بعض البلدان كالعراق، ولبنان، ومصر، والحجاز، وديار بكر.[6][27][94] ومن المدن التي أقام فيها فترات طويلة: القدس، ونابلس، ودمشق، وحلب، وطرابلس الشام، وبغداد، والآستانة (اسطنبول)، والقاهرة، وغزة هاشم. وكتب عن سفره كتباً عدة بأسماء رحلاته، وهي كالتالي:[95][96][97]
وقد أهتم منذ أن حصل على البيعة من شيخه عبد اللطيف الحلبي بزيارة الأماكن المقدسة ومقامات الأولياء والصالحين، فمن الأماكن التي زارها في شبابه (1122 هـ / 1710 م) قرية برزة في غوطة دمشق التي يوجد فيها مقام منسوب للنبي إبراهيم المولود فيها حسب بعض الروايات، وسجل تفاصيل رحلته في رسالة قصيرة أسماها: (برء الأسقام في زيارة برزة والشام).[7] وتوجه في العام نفسه (1122 هـ /1710 م) إلى مدينة بيت المقدس، وزار قرية دير غسان.[99] وكان من ضمن أسباب زيارته هو نشر الطريقة الخلوتية في القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام، وقد استغرقت رحلته إلى القدس سبعة أشهر، وسجل أحداث الرحلة في رسالة سمَّاها: (الخمرة الحسية في الرحلة القدسية) وقد جاء في مقدمتها: «طال ما كانت تتوجه بي الهمة، وتقلقني الأشواق بعزمة أثر عزمة إلى زيارة بيت القدس الشريف الذي مناره عال غالٍ منيف، لا زال محفوفاً بألطاف اللطيف، فكان ذلك في يوم الخميس الذي هو من شهور عام اثنين وعشرين ومائة وألف. وفيه شرعت بحول طول المعين في رحلة تجمع ما يمنحه المتين، وسميتها بالخمرة الحسية في الرحلة المقدسية». وألف في فترة تواجده في القدس مجموعة أوراد لأتباعه ومُريديه أطلق عليها اسم: (الفتح القدسي والكشف الأُنْسي) ويُعرف بورد السَحَر،[ملحوظة 12] وهو ورد يقرؤه آخر الليل كل مريد لطريقته وأمر جماعته بقراءته.[100][101]
بعد أربع سنوات من زيارته الأولى قام بزيارته الثانية سنة 1126 هـ / 1714 م، وسجل أحداثها في رسالة عنوانها: (الخطرات الثانية الأنسية للروضة الدانية القدسية)، وقد زار مصطفى البكري بيت المقدس أكثر من مرة، وكان يغتنم فرصة زيارته باصطحاب أتباعه المنتسبين للطريقة الخلوتية إلى بعض الأماكن المقدسية حول القدس وفي سائر فلسطين، منها على سبيل المثال: مقام النبي موسي، والحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، ومقام النبي العزيز في العيزرية، والنبي داود، ومقام النبي شمويل، وعلي بن عليل القريب من يافا، ومقام حسن الراعي (أي راعي أغنام النبي موسى) وولده عبد العال قرب مدينة أريحا، حيث سجل رحلته تحت عنوان: (لمع برق المقامات العوال في زيارة سيدي حسن الراعي وولده عبد العال).[7]
ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، ثم توجه منها إلى حلب، ومنها إلى بغداد وأقام بها نحو شهرين، وفي أثناء إقامته فيها قام بزيارة ضريح عبد القادر الجيلاني (ت 561 هـ)، ثم رجع وتوجه إلى زيارة إبراهيم بن أدهم (ت 161 هـ)، ثم تنقل بعد ذلك للسياحة في بلاد الشام لأجل زيارة من بها من الأولياء، ثم رجع إلى القدس وعمّر به الخلوة التحتانية وهي التي تنسب إليه وبها تقام الأذكار والأوراد، ولها تعيين من خبز وأكل على تكية السلطان لمن أقام بها. وفي جمادى الثانية سنة 1129 هـ رجع إلى دمشق واجتمع بالإمام محمد بن أحمد التافلاتي، وكان تقدم اجتماعه به في طرابلس الشام. وفي شهر رمضان عَزم عمه محمد أفندي البكري على الحج فتوجه معه، وخرج معه إلى أن عاد إلى الشام، وكان عمه وعده بتزويج ابنته فلم يتيسر ذلك، ثم رحل إلى القدس وأقام بها وتزوج هناك من فتاة مقدسية إلى أن قدم والي مصر من جهة دمشق لزيارة بيت المقدس وهو الوزير رجب باشا[ملحوظة 13] فزار مصطفى البكري وصار محباً له واصطحبه معه إلى مصر، وأقام بها مدة وأخذ عنه العلم تلاميذ كُثر، أبرزهم محمد بن سالم الحفني.[103]
لما دخل القاهرة، رأى فيها أشياء كثيرة لم يرها في غيرها من المدن، فقال عنها كما قال الإمام الشافعي: «كنت أظن أن مصر في الدنيا، فرأيت الدنيا في مصر». وأول ما ابتدأ به من الزيارات مقام السيدة نفسية، ومنه إلى مقام الإمام الشافعي، ثم عطف بعد ذلك على زيارة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، ثم زار مقامات أسلافه السادة البكرية، ووقف قبالة القطب محمد بن أبي الحسن البكري وقرأ سورة الفاتحة. ثم بعد ذلك ذهب لزيارة الليث بن سعد وزار بعد ذلك عدد كبير من قبور الصالحين والأولياء في القرافة، ثم توجه لزيارة الحسين بن علي، ثم زار مقام الشيخ عبد الوهاب الشعراني، وكرر له الزيارة، ثم زار مقام الشيخ محمد الكردي، ثم توجه بصحبة الشيخ محمد الخليلي إلى جامع عمرو بن العاص ورأى في الجامع مصحفين ينسبان للإمامين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وقال: «إنه بالبُعد عن المدينة، اضمحلت بعض رسومه المتينة»، وصعد المنبر، فوعظ وسار بعد ذلك إلى مصر العتيقة. وقال أنه لو أراد سرد عدد من زارهم في القرافتين وقبور المجاورين، لاحتاج إلى وقت طويل. ثم بعد ذلك توجه لزيارة السيد أحمد البدوي مع الشيخ محمد بن سالم الحفناوي وأخيه يوسف وآخرون، ثم ذهب إلى شربين وقام بزيارة مقام شمس الدين محمد الشربيني.[104] ثم توجه إلى دمياط وأقام هناك في جامع البحر وأخذ العلم عن الشمس محمد البديري الشهير بابن الميت، وقرأ عليه الكتب الستة وأجازه إجازة عامة بسائر مروياته وتأليفاته، وبعد أن زار المقامات فيها توجه للسفر إلى يافا عن طريق البحر، وأقام بها خمسة عشر يوماً ومنها إلى حمص ومنها إلى حماة ونزل في بيت يس القادري الكيلاني شيخ السجادة القادرية بحماة فأخذ عنه الطريقة القادرية ومنها رحل إلى حلب وأخذ العلم عن جماعة منهم الشيخ أحمد خطيب الخسروية الشهير بالبني. ثم توجه إلى دار السلطنة العليا القسطنطينية وتنقل في كثير من المدارس والأماكن معتكفاً على التأليف، وكان كلما سكن في جهة وشاع خبره فيها وقصده أهلها يرتحل إلى جهة أخرى أبعد ما يكون عنها. وفي سنة 1137 هـ أخذ العهد على جميع طوائف الجان أن لا يؤذوا أحداً من مُريديه، الآخذين عنه أو عن ذريته، بمشهد كان فيه الشيخ التافلاتي وغيره من المُريدين.[105][106]
ثم اشتاق إلى رؤية أهله فتوجه إلى أُسكُدار في محرم سنة 1139 هـ، ودخل حلب في صفر ونزل الخسروية مجاوراً للشيخ أحمد البني. ثم توجه للعراق فوصل بغداد في آخر جمادى الأولى ونزل في التكية القادرية، ولم يدع مزاراً إلا وزاره. وجاءه في أثناء ذلك رسالة مكتوبة من شيخه عبد الغني النابلسي يحثه فيها على العودة للشام لأجل والدته. ووصل الموصل في صفر ومنها إلى حلب، فنزل في الخسروية في خلوة الشيخ أحمد البني وكان يقيم فيها الأذكار، وهذه هي الفترة التي ألف فيها شرح حزب الإمام النووي (ت 676 هـ) شارح صحيح مسلم وصاحب (بستان العارفين). وفي شوال سنة 1140 هـ توجه إلى دمشق ونزل في دار الشيخ إسماعيل العجلوني الجراحي، وبعد انتهاء مدة أيام الضيافة نزل حجرته في المدرسة البادرائية (أو الباذرائية)،[ملحوظة 14] ولم تطل إقامته بها، فرحل متوجهاً إلى أراضي القاع العزيري وبلاد صفد، وفي أوائل ذي الحجة سنة 1140 وُلد ابنه محمد كمال الدين، وأرخ مولده بقوله:[107]
أقام في القدس إلى أن دخل شوال سنة 1145 هـ فعزم على الحج وتوجه مع رفقائه منهم حسن بن الشيخ مقلد الجيوشي، ومنها إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة وقضى مناسك الحج. وصَحِبه إلى القدس الشيخ محمد بن أحمد الحلبي المكتبي ومكث عنده نحو أربعين يوماً وأجاز له بالبيعة للغير وأقامه خليفة. وفي سنة 1148 هـ سافر إلى بلاد الروم فمر على صفد ومنها على دمشق، ووصل دار السلطنة في جمادى الأولى وأقام فيها يجتمع بأصحابه. ثم توجه إلى الإسكندرية بحراً ومنها إلى القاهرة. وبعد أن استوفى الزيارات بمصر قصد الشام فدخل بيت المقدس ولم تطل إقامته فعزم على الحج سنة 1149 هـ وفي أثناء رحلته إلى الحج توجه إلى مصر وصحبه جمع كثير وظهرت كلمته فيها. ولما وصل عدد تلاميذه إلى مائة ألف أمر بعدم كتابة أسمائهم وقال: هذا شيء لا يدخل تحت عدد. ثم حج ورجع إلى دمشق وكان وليها في ذاك الوقت سليمان باشا العظمي، ولما وصل إلى دمشق نزل قرب الخانقاه السميساطية، ثم ذهب إلى ديار بكر وأقام بها ثمانية أشهر، ثم إلى نابلس فمكث بها أحد عشر شهراً.[108][109]
في سنة 1152 هـ توجه إلى القدس وظل بها إلى سنة 1160 هـ ثم توجه إلى مصر فاستأجر له محمد بن سالم الحفني (أو الحفناوي) داراً قرب الجامع الأزهر بأمر منه بذلك، وأقام هناك إلى أن دخل شوال سنة 1161 هـ فعزم على الحج. وفي ربيع الثاني سنة 1162 هـ مرض وأصيب بحمى شديدة إلى أن مات.[110]
وقد قضى البكري شطراً من حياته في ربوع بيت المقدس، وأقام فيها مدة طويلة حتى عدَّ بعض مؤرخو سيرته القدس بلده في حال إيابه إليه من رحلاته. وقد أثمرت زيارته لها وإقامته فيها عن انضمام العشرات من أهل القدس للخلوتية، من أبرزهم: الحاج علي شعال السلطانية، والحاج محمد نسيبه، ومحمد الطواقي، والشيخ يحيى الدجاني، وعلم الدين العلمي، والشيخ محمد بن أحمد الحلبي المكتبي الذي نصبه خليفة له في القدس وأذن له بالمبايعة، وكان قبل ذلك قد نصب الشيخ محمد بن سالم الحفني خليفة له في الديار المصرية حيث كان له دور كبير في انتشار الخلوتية وازدهارها في مصر في القرن الثامن عشر الميلادي.[7]
كان هدفه الأساسي من رحلته إلى العراق هو زيارة مراقد وأضرحة الأولياء والصالحين، ونشر الطريقة الخلوتية هناك. وخلال تواجده في العراق كان يمنح إجازاته الصوفية لصلحاء القوم أو ممن يتوسم فيهم خيراً لهذه الطريقة، وقد منح عدداً من هذه الإجازات في العراق لمشايخ وعلماء كبار، وكانت إجازته من ثلاثة أصناف، وهي كالتالي:[111]
لا تخلو الرحلة من تحصيل الاطلاع على مؤلفات العلماء، والاستماع إلى الشروح ونوادر الأخبار ونفائسها، وخاصة كرامات الأولياء وأقوالهم ومؤلفاتهم، مثلما وجد ذلك في استفساره من الشيخ عبد الله العيدروسي عن كرامات ومؤلفات عبد الرحمن العيدروسي وغيره كثير. وبالرغم من كون الرحلة ركزت على جانب مراقد ومشاهد الأولياء والعلماء والمشايخ، إلا أنها عرجت على جوانب علمية واجتماعية وسياسية، خاصة وأنها كانت على امتداد العراق من الموصل إلى البصرة مروراً ببغداد، وكذلك في العودة. وسجلت هذه الرحلة لقطات بعضها مجهول، وبعضها غامض. ومن ذلك ما يلي:[111]
ذكر المؤرخ محمد خليل المرادي في (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) أن له سبعة دواوين، وألفية في التصوف، وتسعة أراجيز في علوم الطريقة. قال المرادي: "وله نظمٌ كثير، وقصائد جمة خارجات عن الدواوين، تُقارِب اثني عشر ألف بيت". وقال أيضاً: "وقد وقفت له على قصيدة، فوجدتها فائقة فريدة، ضُمِّن فيها البيت المشهور:[113]
لكن الدواوين التي أشار إليها المرادي لم تصل إلينا، ولعلّه لم يبقَ منها إلا ديوانان، هما:[113]
من شعره في وصف المسجد الأقصى:[114]
وأنشد من (الكامل) أبياتاً لأتباعه في أثناء زيارته لمقام منسوب للنبي إبراهيم في قرية برزة القريبة من دمشق:[115]
ويقول في وصف مدينة جنين:[114]
أما مقاماتُه فإن له اثنتي عشرة مقامةً، منها: المقامة الرومية والمدامة الرومية، والمقامة العراقية والمدامة الأشرافية، والمقامة الشامية والمدامة الشافعية، والصمصامة الهندية في المقامة الهندية. وهذه المقامات في غاية الفصاحة وفي أعلى مقام البلاغة، حتى مدح بعضها الأديب الشيخ عبد الله بن مرعي قائلاً:[113]
وقال يوسف الحفني صاحب حاشية الأشموني، وهو أخو محمد بن سالم الحفني:[113]
ذكر محمد خليل المرادي أن مجموع كتبه ورسائله بلغت 222 مؤلفاً، وذكر الجبرتي أن مؤلفاته تُقارب المئتين، وأحزابه وأوراده أكثر من ستين،[10] وذكر حسن عبد اللطيف الحسيني في (تراجم أهل القدس) أنها مئة مصنف، وقد ذكر مصطفى البكري مؤلفاته بنفسه في أرجوزة اسمها: (نفح نسائم الأسحار بفحيح جسايم الأسحار) وهي تقع في 34 ورقة، وفي هوامش هذه المنظومة يُورد أسماء عناوين 125 مؤلفاً من مؤلفاته من رسائل وكتب ومنظومات، أرقامها مسلسلة، مع تاريخ تأليفها، وأوصلها أحد الباحثين إلى 116 مؤلفاً.[116] وله اثنتا عشر مقامة، وحوالي اثنتا عشرة رحلة، وسبعة دواوين شعرية، وتسع أراجيز في علوم الطريقة وغيرها كثير. وقد أوقف كتبه في حياته على زاوية آل أبي السعود جوار المسجد الأقصى،[ملحوظة 15] إلا أن الأيدي تناثرتها، واليوم توجد كتبه في متاحف الغرب وغيرها.[90]
شملت مصنفاته علوماً شرعية متنوعة في الفقه والتفسير والحديث النبوي والتصوف الإسلامي، إضافة إلى العلوم اللغوية والأدب العربي، وكتب التراجم والرحلات، والمدائح النبوية، والأدعية والابتهالات، مع غلبة الطابع الديني الصوفي العرفاني على مؤلفاته. وقد ذكر الباحث فالح البكور في مقدمة تحقيقه لكتاب (الدر الفائق في الصلاة على أشرف الخلائق) ترجمة للشيخ مصطفى البكري، أورد فيها أسماء 185 مؤلفاً له.[96] ونقل جميل بن مصطفى العظم في كتابه (عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون تصنيفاً فمئة فأكثر) أسماء عدد كبير جداً من مؤلفاته، مُرتَّبة ترتيباً أبجدياً، من ترجمته التي جمعها ابنه كمال الدين.[117] ومن مؤلفاته ما يلي:[5][6][9][10][27][118]
|
|
أثنى عليه عدد من العلماء والمؤرخين من أساتذته ومعاصريه ومن جاء بعدهم، منهم على سبيل المثال وليس الحصر:[123][124][125]
أشاد به شيخه عبد الغني النابلسي في منظومته المسماة (النسبة)، والشيخ محمد التافلاتي، والبديري الدمياطي المعروف بابن الميت، والرحالة مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي الذي استضافه في منزله حين قدم إلى القدس، وصفه في رحلته المسماة (موانح الأنس في رحلتي لوادي القدس) بقوله: «فنزلنا منزل قطب دائرة الأملاك الحسينية، واسطة عقد العصابة الهاشمية، خلاصة السادة الأشراف وصفوة بني عبد مناف، من فاق بحُسن سيرته النجوم الزواهر، وبجميل طلعته البدور النواضر، الراسخ في العلم الإلهي، المكاشف عن أسرار الحقائق كما هي، أستاذ كل أستاذ، وملاذ كل ملاذ، مولانا السيد مصطفى البكري الصديقي، قدس الله سره الشريف».[102] وأضاف اللقيمي قائلاً: «فإن أستاذنا المذكور قدس الله سره الشريف بمظهر من الجمال في أرفع محل منيف، مع لطف بلغ غاية الكمال، وحسن خلق وفضل وأفضال، فوا النجم إذا الهوى، أنه لجميع المحاسن قد حوى، وهو الذي يقتدي به المقتدون، وبسمته يهتدي المهتدون»، ثم أنشد مادحاً:[123]
وقد وصفه عبد الحي الكتاني في (فهرس الفهارس) بأنه «شيخ المشايخ والمحققين».[123]
أما تلميذه حسن بن عبد اللطيف الحسيني فقد ترجم له في كتابه (تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر) منوهاً على عظم قدره وعلمه قائلاً إنه: «طود الشريعة، بحر الحقيقة، علم الطريقة، جمع بين العلم والعمل، وجانب الراحة والكسل، قطب الوقت والزمان، فرد العهد والأقران». وأضاف: «وبالجملة فقد كان آية الله في هذا الإقليم الشريف، وعَلَماً من أعلام الهدى المنيف، تشد إليه الرحال، فإنه من أعلى الرجال، محمدي الأخلاق، طيب الأعراق، لا يعرف الإمساك، ولا يألف إلا الإنفاق».[123]
أما المرادي فقد وصفه في سياق ترجمته له في كتابه (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) بأنه: «الأستاذ الكبير، والعارف الربّاني الشهير، صاحب الكشف، والواحد المعدود بألف، كان مغترفاً من بحر الولاية مقدماً إلى غاية الفضل والنهاية، مستضأ بنور الشريعة، رطب اللسان بالتلاوة، صاحب العوارف والمعارف، والتآليف والتحريرات والآثار التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وبعد صيتها في الناس عجماً وعرباً، أحد أفراد الزمان وصناديد الأجلاء من العلماء الأعلام والأولياء العظام، العالم العلامة الأوحد أبو المعارف قطب الدين».[123][126]
ووصفه الجبرتي بأنه: «هو الأستاذ الأعظم، قدوة السالكين، وشيخ الطريقة والحقيقة، ومربي المريدين، الإمام المسلك الخلوتي». وقال: «إنه عرضت عليه (قطبانية الشرق) فلم يرضها زهداً وتواضعاً».[123]
وأشاد به تلميذه محمد بن أحمد السفاريني قائلاً: «أعجوبة الزمان ونادرة الدهر والأوان، صاحب المقامات الباذخة، والقواعد الراسخة، والتجليات الفاخرة، والأحوال والتجليات السافرة، والعلوم الزاخرة والفهوم القاهرة، والكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والتآليف السائرة والتصانيف الدائرة».[123]
وقد عُرف مصطفى البكري بسخائه وكرمه، فوصفه الشيخ حسن بن علي شمة المكي المصري قائلاً: «وكان أكرم من السيل، وأمضى في السر من السيف، وأوتي مفاتيح العلوم كلها حتى أذعن له أولياء عصره ومحققوه في مشارق الأرض ومغاربها، وأخذ على رؤساء الجن العهود وعم مدده سائر الوجود».[123]
ووصفه جميل بن مصطفى العظم في كتابه (عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون تصنيفاً فمئة فأكثر) فقال: «هو الإمام العالم العلّامة، الأستاذ الكبير، العارف بالله سيدي مصطفى بن كمال الدين بن علي بن كمال الدين بن عبد القادر محي الدين الصديقي الحنفي الدمشقي البكري...».[127]
ترجم له يوسف النبهاني في كتابه جامع كرامات الأولياء وأثنى عليه ثناءاً حسناً.[128] وقال عنه في كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) أنه: «من أكابر العارفين ومشاهير الأئمة الأعلام المتفق على جلالتهم عند جميع أهل الإسلام».[129]
أثنى عليه أحمد فريد المزيدي فقال عنه: "هو بحر الصفا، ونهر الصدق والوفاء، نجل الإمام الصدّيق، وسبطي الحسن والحسين، سيدي أهل التحقيق، شيخ مشايخ أهل الطريقة الخلوتية، وسيّد أهل العصابة القرة باشلية،[ملحوظة 35] الداعي العباد إلى الله بمرتبة أهل الوراثة المحمّدية، والقائم في منصب الإرشاد لجميع البريّة، إمام المحقّقين، وقدوة أهل الفضل واليقين، وعمدة أهل العلم الراسخين".[130]
اعترض بعض المستشرقين والباحثين الأجانب على كونه مجدداً للإسلام أو للطريقة الخلوتية. قال الباحث والأكاديمي الأمريكي خالد الروَّيهب، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة هارفارد، في كتابه (تاريخ الفكر الإسلامي في القرن السابع عشر) (بالإنجليزية: Islamic Intellectual History in the Seventeenth Century) أنه من المؤسف أن هناك بعض المؤرخين المعاصرين قد أخذوا توصيف يوسف النبهاني لمصطفى البكري بإحياء وتجديد الطريقة الخلوتية بمعنى مختلف - فقد توقعوا أنه كان مُصلحاً ومجدداً تخلى عن عقيدة وحدة الوجود. ولكن كما أوضح كل من فريدريك دي يونج (أستاذ اللغات والثقافات الإسلامية بجامعة أوتريخت) والمستشرق الألماني رالف إلجر [الألمانية] (أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مارتن لوثر في هاله)، فإن مثل هذه الادعاءات ليست دقيقة أو سليمة؛ ولا يوجد دليل على أن البكري قد أجرى أي إصلاحات باستثناء إدخال مجموعة معينة من الأدعية والابتهالات والأوراد مثل ورد السَحَر بين أتباعه.[131][132] لكن وفقاً لجدعون وايجرت [الألمانية] فإن معظم المصادر توثّق بوضوح إصلاحاته، فقد اعتبره أحد كبار تلاميذه وهو القاضي حسن بن عبد اللطيف الحسيني مفتي الحنفية بالقدس مجدداً للإسلام في عصره.[133]
سافر للحج عام 1161 هـ، وعاد من الحجاز إلى القاهرة فمرض وأصيب بالحُمّى بعد رجوعه من الحج لمدة شهر تقريباً، ثم حان موعد مولد السيد أحمد البدوي، فأراد تلميذه محمد بن سالم الحفني عدم الذهاب لحضور المولد من أجل رعايته والاطمئنان عليه، فأشار إليه مصطفى البكري بالذهاب وعدم التخلف عن حضور المولد، فتوجه الحفني إلى المولد ثم توفى مصطفى البكري وهو في المولد يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1162 هـ / 1749 م،[125][ملحوظة 36] ودفن في القرافة الكبرى في تربة المجاورين في حي الدرب الأحمر بالقاهرة الآن، وقبره مشهور يزار ويتبرك به.[134] ولمّا عاد الحفني من مولد السيد البدوي وعلم بوفاته قال: «إني أود الآن لو كان أستاذنا الصّديقي حياً وأكون خادماً له فقط وأحظى بلثم أعتابه». قال الشيخ حسن بن علي شمة المصري: «وقد عمل له أستاذي (أي محمد بن سالم الحفني) في شهر شعبان من هذا العام مولداً عظيماً شدت إليه الرحال، وحطت لديه الأثقال، وتطاولت دونه الآمال. وبالجملة فمناقب هذا السيد الجليل تجل عن التعداد».[135]
رثاه شعراء عصره والعديد من تلاميذه وأصحابه كالشيخ "يوسف الحفني" (ت 1178 هـ)، والشيخ محمد مصطفى أسعد اللقيمي (ت 1178 هـ)،[7] ورثاه ابنه كمال الدين محمد بن مصطفى البكري (ت 1196 هـ) بقوله:[10][27]
{{استشهاد بمجلة}}
: تحقق من التاريخ في: |تاريخ=
(مساعدة){{استشهاد بمجلة}}
: الاستشهاد ب$1 يطلب |$2=
(help)Seamless Wikipedia browsing. On steroids.
Every time you click a link to Wikipedia, Wiktionary or Wikiquote in your browser's search results, it will show the modern Wikiwand interface.
Wikiwand extension is a five stars, simple, with minimum permission required to keep your browsing private, safe and transparent.