Loading AI tools
ثالث خُلفاء بني العبَّاس (حكم 158 – 169هـ / 775 – 785م) من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أمير المُؤمنين وخليفة المُسلِمين أبو عبد الله مُحمَّد المَهْدي بن عبد الله المنصور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلِب الهاشِميُّ القُرَشي (127 – 22 مُحرَّم 169هـ / 745 – 4 أغسطس 785م) المعروف اختصارًا باسمه ولقبه مُحَمَّد المَهْدي أو بلقبه المَهْدي، هو ثالث خُلفاء بني العبَّاس، والخليفة الثَّاني والعُشرُون في ترتيب الخُلفاء عن النَّبِي مُحمَّد. بُويع المهدي بالخلافة بعد وفاة أبيه المنصُور في 6 ذي الحجَّة 158هـ / 10 يونيو 775م، واستمر خليفةً عشرة أعوام حتى وفاته.
أمير المؤمنين | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
مُحمَّد المَهْدِي | |||||||
مُحمَّد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العبَّاس الهاشميُّ القُرشي | |||||||
تخطيط باسم الخليفة مُحمَّد المهدي | |||||||
معلومات شخصية | |||||||
الميلاد | 127هـ / 745م إيذج، الأهواز، الخلافة الأمويَّة | ||||||
الوفاة | 22 مُحرَّم 169هـ / 4 أغسطس 785م (بالهجري: 41 سنة و7 شهور) ماسبذان، الجبال، الخلافة العبَّاسية | ||||||
مكان الدفن | مقاطعة سيروان، عيلام، إيران | ||||||
مواطنة | الدولة العباسية | ||||||
الكنية | أبو عبد الله | ||||||
اللقب | المَهْدي | ||||||
الديانة | مُسلمٌ سُنيٌّ | ||||||
الزوجة | الخيزران بنت عطاء · ريطة بنت السفاح · أسماء بنت عطاء | ||||||
الأولاد | موسى الهادي · هارُون الرَّشيد · إبراهيم · عليَّة · العبَّاسة (للمزيد) | ||||||
الأب | أبو جعفر المنصور | ||||||
الأم | أم موسى بنت منصور الحميرية | ||||||
إخوة وأخوات | جعفر الأكبر • سُليمان (للمزيد) | ||||||
عائلة | بنو العباس | ||||||
منصب | |||||||
الخليفة العبَّاسي الثالث | |||||||
الحياة العملية | |||||||
معلومات عامة | |||||||
الفترة | 6 ذي الحجة 158 - 22 مُحرَّم 169هـ (6 أكتوبر 775 - 4 أغسطس 785م) | ||||||
التتويج | 18 ذي الحجَّة 158هـ / 18 أكتوبر 785م | ||||||
|
|||||||
وليُّ العهد | |||||||
|
|||||||
السلالة | بنو العبَّاس | ||||||
المهنة | سياسي، وشاعر، وخليفة المسلمين | ||||||
اللغات | العربية | ||||||
تعديل مصدري - تعديل |
وُلد مُحمَّد بن أبي جعفر، المُكنَّى أبي عبد الله، في قرية إيذج قرب الأهواز أواخر خلافة بني أميَّة، مُعاصرًا في طفولته للمراحل المبكرة لتأسيس الخلافة العبَّاسية على يد عمِّه أبو العبَّاس السَّفَّاح. تولَّى والده أبو جعفر المنصور الخلافة سنة 136هـ / 754م، وبعد بلوغ أبي عبد الله الرابعة عشرة عامًا، قرر المنصُور انتداب ابنه لتسيير الجيش العبَّاسي لمُحاربة تمرُّد عبد الجبَّار الأزدي بهدف تدريبه على الحُكم وتجهيزه لقيادة الأمة لاحقًا. تولَّى أبي عبد الله في نفس السنة، ولانعدام خسائر الجيش، مهمة فتح طبرستان (758-759)، لتخضع للمرة الأولى في تاريخها من قبل المُسلمين، وتُلحق بالدَّولة الإسلاميَّة. رأى المنصُور ما سرَّهُ من الفتوحات والانتصارات التي جرت تحت قيادة ابنه أبي عبد الله، ولقَّبه المَهْدي، آملًا أن يكون مهدي آخر الزَّمان، ثم قدَّمه في ولاية العهد، مُؤخرًا ولاية عيسى بن موسى، لحصر الخلافة في ذريته.
بُويع المهدي للخلافة بعد وفاة المنصُور في ذي الحجَّة سنة 158هـ / أكتوبر 775م. ساعد حُكم أبيه المنصُور على استتباب الأمن في عموم دولة الخلافة، فلم يواجه المهدي خلال فترة حكمه سوى بعض التحديات والثورات، مثل تمرُّد الخوارج، وثورة المُقنَّع الخُراساني، وغيرهم من القلاقل المُهددة لحكمه، وبفضل حنكته وحسن سياسته، تمكن من التغلُّب على معظمها، مما ساعد في تعزيز استقرار الدولة.
تميَّز عهد المهدي بانفتاحه الكبير وازدهاره الواسع، فقد تولى الحكم حين كانت بغداد في بداياتها كمحط أنظار للتُّجَّار والعُلماء. ساهمت سياسات المهدي وإصلاحاته الكبيرة في تعزيز هذه المكانة بشكلٍ كبير، فأدت لانتعاشٍ اقتصادي واجتماعي شهدته بغداد، لتنمو بشكلٍ سريع، جاذبةً العديد من المهاجرين من مختلف الأعراق والأديان لبنائها وتطوُّرها. شجَّع المهدي كُلًا من العلوم والفنون، مما ساعد في وسم عهده كبداية فترة الرَّخاء والتقدُّم في تاريخ الخلافة العبَّاسية.
هو مُحمَّد المهدي بن عبد الله المنصُور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالِب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
والدهُ هو الخليفة أبو جعفر المنصور، ثاني خُلفاء بني العبَّاس والمُؤسس الفعلي لدولتهم (حكم ذي الحجَّة 136 - ذي الحجَّة 158هـ / نوفمبر 713 - أكتوبر 775م).
والدتُه هي أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن شهر بن يزيد بن مثوّب بن الحارث بن شمر ذي الجناح الحِمْيَري،[1] سيدة عربيَّة ذات حسبٍ ونسب من قبيلة حِمْيَر اليمانيَّة، تزوَّجت في البداية رجُلًا من ذُرية عبيد الله بن العبَّاس ثم توفى تاركًا لها ابنة. قابلها أبو جعفر في القيروان الإفريقيَّة أثناء مُهمته في الدَّعوة العبَّاسية ولجلب ابنة قريبه المتوفي للاعتناء بها، ثم سرعان ما أعجب بأم مُوسى وأحبَّها فتزوجها بعدما اشترطت عليه أن لا يتزوج غيرها أو يتخذ جارية طوال زواجهما، وارتحلت معه إلى الحُمَيمة.[2][3][4]
وُلد مُحمَّد بن عبد الله والمُكنَّى أبو عبد الله، في قرية إيذج بين أصبهان والأهواز سنة 127هـ / 745م،[5][6][7][8] أثناء عمل والده أبو جعفر عليها لصالح ثورة عبد الله بن مُعاوية الجعفري على الأمويين.[9] وقيل ولد في قرية الحُمَيْمَة، من بلاد البلقاء الواقعة في جند الشراة الشَّامية.[10][11][12]
ترعرع مُحمَّد بن أبي جعفر، المُكنَّى أبي عبد الله، في كنف والده ووالدته، وعاصر أيَّام طفولته إقامة عشيرته من بني العبَّاس في الحُمَيمة تحت الإقامة الجبريَّة بأمرٍ من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (حكم 105-125هـ / 724-743م) لإبقائهم تحت نظره ومنع الإمام مُحمَّد بن علي (جد محمد) من تكوين الأتباع، نظرًا لكلام جد العائلة علي بن عبد الله بن عباس بأن الخلافة ستؤول إلى ذُريته.[13][14][15] كان مُحمَّد وأخيه جعفر يتداعبان مع صاحب والدهما عُثمان بن عروة، من ذرية الصَّحابي عمار بن ياسر، حين جاء إليه أبو جعفر مهمومًا بعدما قبضت الشُّرطة الأمويَّة على إبراهيم الإمام وقتلته لاحقًا في السجن.[16] ثار العبَّاسيين على بني أميَّة وأزاحوهم من عرش الخلافة الإسلاميَّة،[17][18] مؤسسين بذلك حُكمًا للأسرة ابتدأه عمِّه الخليفة أبو العبَّاس السَّفَّاح (حكم 132-136هـ / 750-754م)، وعمر مُحمَّد بن أبي جعفر خمسة أعوام آنذاك، ليصبح والده من أهم مستشاري أخيه، وعينه واليًا على الجزيرة الفراتية وأذربيجان وأرمينية لأربع سنوات حتى وفاة السَّفَّاح، بعدما أوصى باستخلاف أبو جعفر من بعده.[19][20][21]
تولَّى والده أبو جعفر الخلافة في ذي الحجَّة 136هـ / يونيو 754م، وعمر ابنه مُحمَّد أبي عبد الله تسعة أعوام، وكان صغيرًا على توليته أية مهام.[22][23] حين بلغ أبي عبد الله مبلغ الرجال وأصبح عمره أربعة عشر عامًا، أراد والده اختبار قدراته على أعباء الحُكم وتجهيزه لقيادة الأُمَّة الإسلاميَّة مُستقبلًا، فبعثه على رأس جيشٍ كبير وأيَّده بالقائد خازم بن خُزَيمة التميمي لمُحاربة عبد الجبَّار الأزدي بعد خلعه للطَّاعة، بهدف توطيد الأمن في ولاية الجبال. نزل أبي عبد الله مدينة الرَّي، وأرسل التَّميمي نحو الأزدي لقتاله واستئصال شرِّه، ثم سار أبي عبد الله إلى نيسابور مُنتظرًا نهاية حملة التميمي على الأزدي قرب الرَّي، غير أن أنصار بني العبَّاس في مرو الرُّوذ جاؤوا مُتحمسين نحو الأزدي، وانتصروا عليه في الواقعة يوم 6 ربيع الأوَّل سنة 142هـ / 6 يوليو 759م، دون تكبُّد الجيش العبَّاسي أيَّة خسائر.[24][25]
بعد هزيمة عبد الجبَّار الأزدي من قبل أنصار العبَّاسيين قرب الرَّي دون تكلُّف الجيش العبَّاسي أيَّةُ خسائر، كره الخليفة أبو جعفر عودة الجيش بعدما أنفق من العدة والعتاد أموالًا كبيرة، وكان الأصبهبذ خورشيد رفض إجابة الخليفة خالعًا لطاعته، ووجدها أبو جعفر فرصة ثمينة. نزل أبي عبد الله على أوامر أبيه في مدينة الرَّي سنة 141هـ / 758م، واتخذها قاعدة لشن الهجوم على طبرستان، ومعه كُلًا من خازم بن خُزَيمة التميمي، ومولى أبيه أبو الخصيب، فسار الجيش الإسلامي وتوغَّل في البلاد حتى وصل سارية. كان الأصبهبذ خورشيد في ورطة حقيقيَّة، فقد كان على وشك الدُّخول في حرب مع ملك دنباوند الملقَّب بالمصمغان، فعقدا الصُّلح بينهما، واجتمعا على مُحاربة المُسلمين القادمين.[24]
طالت أيام الحرب بين الطرفين، حتى انتُدب عمر بن العلاء، وكان أعرف الناس بمواضع طبرستان ومسالكها الصَّعبة، فاستولى على الرُّويان وقلعة طاق قرب سمنان، وخضعت كامل طبرستان للمرة الأولى في تاريخها للنُّفوذ الإسلامي، غير أن الجيش الإسلامي غادرها بناءً على عهد مُبرم بعدما حاز على غنائم عظيمة، وخرج الأصبهبذ خورشيد نحو الدَّيلم وتُوفي هناك، مُستخلفًا وراؤه الأصبهبذ قارن.[24][27][28] لم يكن الأصبهبذ قارن سعيدًا بما جرى لبلاده من قبل الجيش الإسلامي، فجمع الأجناد، وانتقم بقتل كل المسلمين في بلاده سنة 142هـ / 759، ناكثًا بذلك العهد المُبرم مع الخلافة الإسلاميَّة بعد شهور من الحملة الأولى. ليوجَّه الخليفة جيشًا بقيادة خازمًا التميمي، وروح بن حاتم المهلبي، ومولاه أبو الخصيب، وبعد حصارٍ طويل، فعل أبو الخصيب حيلة ذكيَّة أدَّت لاختراق دفاعات قلعة الأصبهبذ بعدما ادَّعى تنكُّره للخلافة، فعلم الأسرار الحربيَّة لدى الطبريين، وسرَّبها للجيش الإسلامي، فدخلوا القلعة، وقتلوا المُقاتلة، وسبوا السبيَّة، وتناول الأصبهبذ قارن السُّم في خاتمه مُنتحرًا. أُلحقت كامل طبرستان في دولة الخلافة، بعد 119 عامًا من تحصُّنها أمام الحملات الإسلاميَّة.[29][30][31]
قام الخليفة أبو العبَّاس السَّفَّاح بتولية عيسى بن موسى وليًا للعهد بعد المنصُور، غير أن الأخير أراد خلعه من ولاية العهد لدوافع عديدة، منها ما رأى من محبَّة الجند لابنه أبي عبد الله وأهليَّته في الحُكم، فضلًا عن مساهمته في توطيد دعائم الدَّولة وقهر التمرُّدات عليها، وأراد المُحافظة على ذريته في الخلافة من بعده.[32] بدأ الأمر حين اجتمع قادة خُراسان مع المنصُور، وذكروا له فِعال أبي عبد الله ومدى نُبُل أخلاقه، وسألوه بتوليته العهد. كان المنصُور يُكرم عيسى بن موسى قبل مسألة المهدي، فكان يجلسه عن يمينه، في حين يجلس المهدي يساره، فلما كلمه المنصُور برقيق الكلام لخلع نفسه وذكر له ما وقع في قُلوب أهل خُراسان وأنه يراه أهلًا للخلافة، رفض عيسى تأخير ولايته وتعلَّل بالمواثيق والعهود، فتغير المنصُور عليه وبدأ يبعده، فيأذن لابنه المهدي قبله، ثم بدأ يجلسه يمينه وأمر عيسى بالجلوس قرب المهدي، وبدأ المنصُور بإرسال أقاربه مثل عمه عيسى بن علي لإقناع ابنه عيسى بالتنازل عن ولاية العهد اختياريًا أو تقديم المهدي عليه.[33][34][35]
فشلت جميع المحاولات السلميَّة في إقناع عيسى، ووجد المنصُور بالإسراع من تقديم ابنه أبي عبد الله في ولاية العهد، غير أن الرِّوايات اختلفت في ما قام به من إجراءات لمواجهته. تذكر الرواية الأولى أنه وجَّه بحيلة حين أمر الرَّبيع الحاجب بخنق موسى ابن عيسى بعد تورطه بالكلام في شيء، فصاح موسى مستنجدًا بالخليفة، فتعلل المنصُور بأن أبوه لن يبالي بوفاته وله بضعة عشرة من الذكور غيره، وأشار المنصور على الرَّبيع إكمال خنقه وأبوه حاضرًا، فقال: «والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله! فاكفف عنه، فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق، ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين!»، ثم مد يده قائلًا: «وهذه يدي بالبيعة للمهدي».[36]
في حين ذكرت رواية ثانية أن الجند تجمعوا يومًا بعد يوم ووقفوا على بابه حتى خاف عيسى على نفسه، فرضي وسلم بالأمر.[37] وتشير رواية أخرى أن عيسى بن موسى أخَّر نفسه في ولاية العهد بمال قدره 11 مليون درهم.[38] وعلى أية حال، فإن عيسى بن موسى أصبح وليُّ العهد الثاني بعد أبي عبد الله المهدي في سنة 147هـ / 764م.[36][38] مر عيسى بن موسى بأهل الكوفة بعد تنازله، فقال أحدهم: «هذا الذي كان غدًا فصار بعد غد».[39] أراد أبو جعفر قبل وفاته أن يُبايع لابنه صالح المسكين بعد المهدي وعيسى بن موسى، غير أن المهدي عارض ذلك، قائلًا: «يا أمير المؤمنين لا تحملني على قطيعة الرحم، وإن كان لا بد لك من إدخال أخي في هذا الأمر فأدخله قبلي، فإن الأمر إذا صار إلي أحببت أن لا يخرج من ولدي كما أحببت (يقصده هو) حين صار الأمر إليك أن لا يخرج عني وبذلت ما بذلته لعيسى بن موسى وهو ابن أخيك حتى خلع نفسه من ولاية العهد بعدك»، فاقتنع المنصُور وترك الأمر.[40]
كان المنصُور شديد المحبَّة لابنه أبي عبد الله، وكثير النُّصح له،[41] ولإعلاء شأنه كولي عهد بين الناس، أطلق عليه لقب المَهْدِي، وقد تضاربت الروايات حول سبب إطلاقها على أبي عبد الله، غير أن المشهور أنها ظهرت أثناء مُحاربة محمَّد النَّفس الزكيَّة، بعد ادعاء الأخير المهديَّة وراج ذلك قبل وخلال ثورته في المدينة المُنوَّرة سنة 145هـ / 762م. كان أبو جعفر يرجو أن يكون ابنه المهدي الموعود في أحاديث آخر الزمان، فكان اسمه واسم أبيه وانتماء بني العبَّاس لأهل البيت مواطئًا لشخصية المهدي عند أهل السُّنة والجماعة.[12][42] ذكر الخطيب البغدادي حديثًا مرفوعًا إلى جد العائلة الأكبر والصَّحابي عبد الله بن عبَّاس قوله: «منا ثلاثة: منا المنصُور، ومنا السفاح، ومنا المَهْدِي». ونقل حديثًا آخر: «ما المهدي إلا من قريش، وما الخلافة إلا فيهم غير أن له أصلاً ونسباً في اليمن»، وهو ما يوافق الأمير محمد المهدي لكون والدته يمانيَّة، وذلك إلى جانب العديد من الأحاديث المُختلف حول مدى صحتها أو إن كان مقصدها حول المهدي العبَّاسي أو غيره.[43] وعلى أية حال، فقد كتب الخليفة المنصُور بالآفاق بالبيعة للمهدي من بعده، مُستبشرًا ومُؤملًا لما في الأحاديث النبويَّة.[44]
عاصر أبو جعفر المنصُور الكثير من الأحداث طيلة عهده، فحكم نحو 22 عامًا، شهد فيها أشد المصاعب والفتن التي كانت لتضع حدًا للدَّولة العبَّاسية الوليدة حديثًا، فتمكن المنصُور من الحفاظ عليها وتقوية دعائمها من بلاد ما وراء النهر شرقًا حتى إفريقية غربًا، ومن اليمن جنوبًا حتى الكرج شمالًا، وباتت سنواته الأخيرة في الحكم هادئة من الأحداث الكبيرة، غير أن صحته وقوته ضعفت خصوصًا مع كبر سنه، وقبل مسيره إلى الحج، جلس مع ابنه ينصحه في أصول الحكم، ثم ودَّعه مُستخلفًا إياه على بغداد. ازداد مرض المنصُور أثناء الطريق، واشتدت علّته،[45][46] ليتوفى في نواحي مكَّة في 6 ذي الحجَّة سنة 158هـ / 6 أكتوبر 775م، ودُفن في ثنية المعلاة.[47][48] تولَّى مولاه الرَّبيع أخذ البيعة للمهدي، ليُبايع له بين الركن والمقام على يد ابنه الفتى الذي كان حاضرًا موسى بن المهدي[47][49]
أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم، وطوي ثوب الإصر عنكم، وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدماً ذلك فعل من تقدمه، والله لأفنين عمري من عقوبتكم، ولأحملن نفسي على الإحسان إليكم |
—إحدى خُطب الخليفة المهدي[50][51] |
وصلت أخبار وفاة أبو جعفر المنصور إلى المهدي المُقيم في بغداد، من خلال مولاه منارة البربري، فسلَّم عليه بالخلافة، وعزَّاه في والده، وسلَّمه خاتم الخلافة وبردة النَّبي.[49] كتم المهدي خبر وفاته ليومين، ثم أعلنها في يوم الخميس 18 ذي الحجَّة 158هـ / 18 أكتوبر 775م، أمام أهل بغداد وعيناه تدمع، قائلًا: «إن أمير المؤمنين عبد الله دعي فأجاب .. إن رسول الله ﷺ بكى عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيماً وقلدت جسيماً، وعند الله أحتسب أمير المؤمنين، وبه عز وجل أستعين على خلافة المسلمين».[52][8] بُويع المهدي من العامَّة والخاصَّة، ثم وزَّع عليهم حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تُحد ولا توصف من كثرتها ومنها خزائن مروان بن محمد آخر خُلفاء بني أميَّة، ولم يعط أهله ومواليه شيئًا منها، غير أنه برَّهم وأجرى لهم الأرزاق بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة درهم في الشهر عدا الأعطيات. كان عمر المهدي 31 عامًا هجريَّة / 30 ميلاديَّة حين استُخلف.[53][54][55][56]
بدأ المهدي حكمه بإصلاحاتٍ كبيرة على المستوى الدَّاخلي، فأعاد الأموال المصادرة إلى أصحابها، وأطلق سراح السُّجناء وعوَّضهم، ومنهم يعقوب بن داود مولى بني سليم، ولحُسن نصيحته وصواب رأيه، اتخذه المهدي أخًا في الله، فكان يشير عليه بحاجة الحُصُون، وتقوية الجنود، وفداء الأسرى، وإعطاء المُعسَّرين، وتزويج الشباب، وفك الديون عن المدينين، لترتفع شعبيَّة المهدي ومنزلته بين الناس، غير أنه واجه كرهًا من خواص المهدي وزادت الشَّائعات حوله، الأمر الذي أدى لعزله وسجنه لاحقًا.[57][58][59] عزل المهدي كثيرًا من الولاة وأصحاب الأعمال عن ولاياتهم مُستبدلًا بهم غيرهم طوال عهده، خوفًا من الطمع من رفق سياسته ولينها مقارنةً عن والده المنصُور.[60][61][62] تقرَّب المهدي من أهل المدينة المُنوَّرة باتخاذه 500 رجل من الأنصار يصحبونه إلى بغداد ليكونوا من حرسه الخاص، مُقطعًا لهم منطقة في العاصمة. استطابت الأحوال في عهد المهدي عمومًا، واستبشر الناس على اختلافهم بخلافته وانفتاح عهده.[63][56] تعد فترة المهدي عمومًا هادئة من ناحية الثَّورات، فلم تكن كثيرة ولم تستمر طويلًا لسببين، الأول لتوطيد المنصُور الأوضاع، مُخضعًا له الرِّقاب، والثانية لقدرة جيش الخلافة على حسمها وإنهائها باستثناء ثورة دحية بن مصعب الأموي في صعيد مصر، فلم تنتهي إلا بعده.[64][65]
بعد تسلُّم حكم المهدي للخلافة، مرت شهور على حكمه حتى بدأ وجهاء بني هاشم وأنصار الخليفة ومُحبيه من أهل خُراسان، بالتآمر على عيسى بن موسى، بهدف خلعه من ولاية العهد لصالح موسى الهادي ابن المهدي. علم الخليفة بهذه المشاورات، وسرّته الفكرة مُقررًا استدعاء عيسى بن موسى المُقيم في الرحبة قرب الكوفة إلى جواره. أدرك عيسى الخطر الذي يحدق به فتردد في القدوم وامتنع، غير أن المهدي لم يدع له مجالاً للهروب، وخشى انتقاضه، وأرسل إليه عمه العبَّاس المُذهَّب برسالة رسمية، ثم حين غادر العبَّاس، عمل حيلة بأن وُضع في يد ألف رجل من أنصاره طبلًا، ضربوها ليلًا قرب دار عيسى بن موسى، ليجزع الأخير جزعًا شديدًا، ولم يجد بدًا من الشُّخوص إلى مدينة السَّلام.[66] وصل عيسى إلى بغداد في 6 مُحرَّم سنة 160هـ / 23 أكتوبر 776م، ليستقبله المهدي بحفاوة، وجعله يقيم في دار على شاطئ دجلة، حيث عاش فترة دون تعرُّضِه لأي مضايقات، أو جفوة أو مكروهًا. في إحدى الأيام، حضر عيسى إلى دار المهدي قبيل قدومه، وجلس في مقصورة صغيرة كانت للربيع. عمل أنصار المهدي حيلة في محاولة للضغط على عيسى، فحاصروا المقصورة وهاجموها بعنف ليُحاصر بداخلها، وبدأوا بضرب الباب بجزرهم وعمدهم فهمشوا الباب حتى كادوا يكسرونه، ووجهوا شتائم قبيحة لعيسى.[67]
أظهر المهدي استياءه من تصرفات أنصاره غير أنهم لم يتوقفوا في شتم عيسى مما يُبين وجود رضا الخليفة، لتستمر المواجهة قائمة لعدة أيام بين عيسى وأنصار خلعه، وأشدُّهم عليه كان محمد بن سليمان. ألح المهدي على عيسى خلع نفسه لحفظه من شرِّهم، غير أن عيسى رفض مُتعللًا بالأيمان التي أقسمها، والمُتعلقة بماله وأهله، فأحضر المهدي مجموعة من الفقهاء والقضاة، منهم عبد الله بن علاثة، والزنجي بن خالد المكي، وغيرهم، وأتوه بما رأوا. بعد مفاوضات مكثفة، رضخ عيسى أخيرًا لضغوطهم. خُلع عيسى بن موسى رسميًا في يوم الأربعاء 26 مُحرَّم سنة 160هـ / 12 نوفمبر 776م، بعد صلاة العصر.[68]
في اليوم التالي، أُعلنت بيعة موسى الهادي خلفًا لعيسى بن موسى في ولاية العهد، وخرج المهدي إلى مسجد الجماعة في الرصافة، مُعلنًا أمام الناس خلع عيسى وتولي موسى للولاية. أوضح المهدي أن هذا القرار جاء بناءً على رغبة أهل بيته وشيعته وقادته، وأنه يصب في مصلحة الأمة وتوحيدها. بعد الخطبة، بايع الناس موسى الهادي، ووُثِّق الخلع رسميًا وأشهد الجميع عليه في صفر سنة 160هـ / نوفمبر 776م. في المقابل، وفَّى المهدي لعيسى بما وعده من تعويضات وحقوق لترضيته، وأكد أن هذا التحرك يهدف إلى ضمان استقرار الحكم ورضا الأمة.[68] قال بعض الشُّعراء عن هذه الحادثة:[69]
يعد خروج يوسف بن إبراهيم، المعروف بالبرم سنة 160هـ / 776م، من أوائل الثَّورات في عهد المهدي، متمردًا على سياساته في الحكم. تغلَّب البرم في البداية على مدينة بوشنج الخُراسانيَّة، ثم بسط نفوذه على مرو الرُّوذ، والطَّالقان، والجوزجان، التي يحكمها الوالي العبَّاسي مصعب بن زريق (جد طاهر بن الحسين)، قبل اضطرار الأخير للفرار أمام زحف قُوَّات البرم، ما جعل خروجه يشكل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار خراسان، جاذبًا حوله عددًا كبيرًا من المؤيدين والأنصار. لم يكن المهدي ليسمح لهذا التمرد بالاستمرار والتوسُّع، فانتدب قائده المُخضرم يزيد بن مزيد الشيباني، ابن أخي معن بن زائدة لمواجهته. اندلعت معركة شرسة بين الجانبين، تمكن يزيد في النهاية من أسر يوسف البرم بعد مواجهة حامية كادت تقلب موازين القوة. عند نقل البرم وأتباعه إلى بغداد، تعرضوا للإذلال علنًا، حيث وُضعوا على ظهور الجمال ووجوههم موجهة إلى الخلف، في مشهد يعكس انتصار الدولة وهيبتها على الخارجين عن سلطتها. وصل البرم مع أصحابه إلى الرصافة التي أقام بها المهدي، فحضروا بين يديه، ليأمر المهدي بقطع يدي البرم وقدميه قبل ضرب عُنُقه مع أصحابه، بسبب قتله أخٌ لهرثمة بن أعْيَن، ثم أمر بتعليق جثثهم على جسر دجلة، لإظهار الشدة والحزم واعظًا لغيرهم.[70][65]
خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري سنة 162هـ / 779م، في جمعٍ وخلقٍ كثير من قِنّسرين، فقويت شوكته، وصمد أمام الحملات التي أرسلها الخليفة، حتى انتدب له شبيب بن واج المروروذي، فهُزم في بداية الأمر، غير أن المهدي أمدَّه بألف فارسٍ مع نفقة كبيرة وصلت مليون دِرهمًا، فخاض بهم شبيبًا معركة حاسمة، انهزم فيها الخوارج، ولاذ اليشكري فارًا إلى قِنّسرين، غير أن المروروذي أدركه وقتله مُنهيًا أمره.[71][72][73] أفسد الأعراب في بادية البصرة، بين اليمامة والبحرين سنة 167هـ / 784م، فقطعوا الطَّريق، وانتهكوا المحارم، وتركوا الصَّلاة، فأرسل المهدي إليهم جيشًا لقتالهم، غير أن القبائل صمدت، وقتلوا عامَّة العسكر المُنفذ إليهم، فقويت شوكتهم غير أن ذكرهم اختفى لاحقًا.[74] يعد خروج ياسين التميمي من آخر ثورات الخوارج القليلة التي حدثت في عهد المهدي، فقد تغلَّب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة سنة 168هـ / 785م، مُعتقدًا بفكر الصفريَّة. وجَّه الخليفة المهدي إليه أبا هُريرة محمد بن فرّوخ، ومعه هَرْثمة بن أعْيَن مولى بني ضبَّة، على رأس الجيش العبَّاسي، ليتمكن الجيش من هزيمته، وقتله مع عدة من أصحابه، وانهزم الباقون.[74]
ظهرت أنباء خروج رجلًا غامضًا، أعورًا، وقصير القامة يُدعى هاشم بن حكيم،[75] وقيل عطاء،[73] اشتهر بارتدائه قناعًا ذهبيًا يُخفي وجهه، ليُعرف باسم المُقنَّع في سنة 160هـ / 777م. لم يكن المقنع مجرد زعيم ديني فحسب، بل ادَّعى الألوهية أمام قلة من أنصاره، مُعتقدًا بتناسخ الأرواح، وزعم أن الله تجسد في صور متعددة عبر التاريخ، بدءًا من آدم وصولًا إلى أبي مسلم الخراساني، والذي على حد زعمه أفضل من النبي مُحمَّد، وأنكر مقتل الثَّائر يحيى بن زيد وادعى عودته لينتقم ممن قتلوه. ادَّعى المُقنَّع أن التجسُّد الإلهي حل في شخصه، مستمدًا أفكاره من مذاهب شتى، من فارسيَّة وإسلاميَّة وهنديَّة، مما زاد من غموض أفكاره بين أتباعه.[76][75][73] جذب هذا الادعاء العديد من الناس من سكان المنطقة الذين اعتادوا على مزيجًا بين الإسلام، والمجوسيَّة، ومن شعائرهم السجود للمقنع من أي مكان كانوا فيه، وكانوا يقولون في الحرب: «يا هاشم أعنا». اتخذ المقنع وأتباعه قلعة بسنام وسنجردة من رساتيق كش مركزًا لهم، بالقرب من بُخارى، حيث تحصنوا فيها وبدأوا توسيع نفوذهم خارجها. سرعان ما انضم إليه جماعات مثل المُبيّضة من بخارى والصغد، ثم الأتراك الذين أغاروا على أموال المسلمين دعمًا لحركته. تمكن أتباع المقنع من السيطرة على بعض القرى والقلع في كش، وصمدوا أمام الحملات العسكريَّة من دولة الخلافة، بقيادة أبي النعمان والجنيد وليث بن نصر مرة بعد مرة دون تمكنهم من احتواء المُقنَّع وأتباعه.[75][77]
قرر الخليفة المهدي انتداب قائده مُعاذ بن مُسلم على رأس الجيش الإسلامي، وأيَّده بالقادة: جبرائيل بن يحيى، وعقبة بن سالم، وعلى مقدمتهم سعيد الحرشي للقضاء على حركة المُقنَّع، فوقعت معركة في الطواويس، ليوقعوا بأتباع المُقنَّع هزيمة فادحة. لاذ أتباع المُقنَّع نحو قلعة بسنام بعد اتخاذها حُصنًا منيعًا لهم. طلب الحرشي من الخليفة أن يُفرده في حرب المُقنَّع بسبب وجود خلاف مع مُعاذًا، فأجابه المهدي إلى طلبه. طالت فترة الحصار، وبدأ أتباع المقنع في فقدان الأمل وطلبوا الأمان من قادة الخلافة سرًا، ليخرج نحو ثلاثين ألفًا من أتباعه من القلعة، تاركين المقنع مع زهاء ألفين من أنصاره الأكثر ولاءً والمُؤمنين به. أدرك المقنع قرب نهايته، فجمع نساءه وأهله وأمرهم بشرب السم، ثم أحرق نفسه مع أهله ونسائه وخواصه، وألقى بنفسه في النار، داعيًا من يريد الصُّعود معه نحو السماء أن يلحق به في النار. اقتحم جيش الخلافة القلعة، ليجدوها خاوية تمامًا، وقد احترق كل من فيها وما عليها. وعلى الرُّغم من هذه النهاية الغريبة، إلا أن أفكار المُقنَّع استمرت لدى أتباعه المتبقين، المعروفين باسم المُبيّضة في ما وراء النهر، غير أنهم اضطروا لإخفاء معتقداتهم بعد هزيمتهم. أرسل سعيد الحرشي رأس المُقنَّع إلى الخليفة المهدي المُقيم آنذاك في حلب عام 163هـ / 780م، وهو ما اعتُبر نصرًا كبيرًا على حركة تمرد خطيرة هددت استقرار النُّفوذ الإسلامي في بلاد ما وراء النَّهر.[78][79][77]
كان المهدي يُحب ابنه هارون المُكنَّى أبو جعفر، وكان كُلما ولَّاه حربًا أو مُهمة، نجح هارُون فيها وأتمَّها على أكمل وجه، وأتت الحملة نحو القُسطنطينيَّة قارعة أبواب العاصمة البيزنطيَّة، نوى المهدي أخذ البيعة لهارُون من بعد ابنه الهادي. بعد عودة هارُون إلى بغداد في أبَّهةٍ عظيمة ومعه رسولٌ من الرُّوم بيده الجزية للخليفة، قرَّر المهدي أخذ البيعة بولاية العهد لهارُون من بعد أخيه موسى الهادي، مُطلقًا عليه لقب الرَّشيد في يوم السبت، 17 مُحرَّم 166هـ / 30 أغسطس 782م، وكانت أيام شهدت رخصًا كبيرًا في المعيشة نتيجة الغنائم الكبيرة في حملة الرَّشيد.[80]
تعد كلمة «زنديق» و«زندقة» ومشتقاتها ذات أصل فارسي دخلت إلى اللُّغة العربيَّة. ذكر العالم اللُّغوي ابن منظور، أن أهم معاني الزِّنديق هو الملحد أو الدهري، أي الذي لا يؤمن بالله ولا بالآخرة.[82] في حين يعتقد العالم اللُّغوي الفيروزآبادي، بأن الكلمة تشير إلى أتباع ديانة المجوس الفارسية التي تؤمن بإلهين للكون، أحدهما للخير والنور، والآخر للشر والظلمة، وأنها تشير أيضًا إلى الشرك بالله، أو الإيمان ظاهرًا والكفر باطنًا.[83] توسع معنى الكلمة لاحقًا ليشمل كل شاك أو ضال أو ملحد، وقد قيل: «من تمنطق تزندق»، أي من تعلم المنطق والفلسفة قد يقع في الشك والضلال، ومن ثم في الزندقة. وبتوسع آخر، أُطلق لفظ زنديق على كل متشبه بالفرس في عاداتهم وأسرف على نفسه في المجون واللهو والشهوات.[84][85]
وعلى أية حال، فإن مصطلح الزندقة إلى فئة معينة لها أهدافًا معادية للإسلام والدولة الإسلامية على حدٍ سواء، سواء بنشر الأفكار الفارسية المخالفة للإسلام، أو بالطعن في الدين والنبي مُحمَّد، أو بوضع الأحاديث الكاذبة ونسبتها إلى النبي. قيل أن تهمة الزَّندقة لاحقت ذوي الأصول الفارسيَّة غالبًا، أو ممن يظهر عنهم بغض العرب، أو من يتسمون بالخلاعة والمجون، أو يستخفون بالعبادات، أو ينكرون أصول بني العبَّاس، أو لا يحفظون من القرآن شيئًا، وهؤلاء كانوا هدفًا رئيسيًا للخلافة العبَّاسية في حربها على الزَّنادقة. يُعتقد أن بذور الزندقة تعود إلى العصر الأموي، لكن المؤكد أن الدولة الإسلامية لم تبدأ حربها الفعلية ضد حركة الزندقة إلا في العصر العبَّاسي. يُقال إن تزايد عدد الرجال من أصول فارسية في البلاط العباسي وتوليهم مناصب عليا مثل الوزراء وكتاب الدواوين هو ما قوَّى فكر الشعوبية الفارسية، مُشكلة حركة الزندقة فرعًا منها.[86]
لم يكن صعبًا على الخلافة العبَّاسية إدراك ما تُمثله حركة الزندقة من تهديدٍ حقيقيٍ لها، سواء من خلال أهدافها الشعوبية الرامية إلى زوال دولة العرب وإعادة مجد الفرس، أو من حيث وسائلهم في دس الأحاديث المكذوبة على النبي، الأمر الذي يمثل تخريبًا لمصدر الشرعية الدينية التي يستند إليها خُلفاء بني العبَّاس، فجلسوا بين العامَّة في شوارع بغداد، وبدأوا بنشر الأحاديث المُزيفة، وتأويل الإسلام بطريقتهم، ليلقوا من العامَّة آذانًا صاغية، في حين غضب العُلماء المُسلمون لما يحدث منهم.[87] بدأت حملة تتبع الزنادقة قبل عهد المهدي، حين قام محمد بن سليمان بن علي، والي الكوفة، بقتل عبد الكريم بن أبي العوجاء في عهد المنصُور. كان عبد الكريم من أتباع ماني ومن زعماء من روجوا للمانويَّة وشككوا في التوحيد، فكان يستخف بالمصحف، ويؤدي الصلاة كعادة اجتماعية منتشرة فقط، معتبرها عادة جسدية وسُنَّة البلد وإرضاءً للأهل. قبيل لحظة إعدامه، قال عبد الكريم: «أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم».[81][88][89]
يعد المهدي من أشهر الخُلفاء وأقواهم في تتبُّع الزنادقة وقتلهم، فأنشأ ديوانًا خاصًا لمتابعة هذا الملف في سائر أنحاء الدولة الإسلامية سنة 167هـ / 783م، مُكلفًا أمرهم عمر الكلوذاني، المعروف بلقب «صاحب الزنادقة»، وبعد وفاته عام 168هـ / 784م، تولى محمد بن عيسى بن حمدويه المهمة. تمكن المهدي بفضل هذا الديوان من إنهاء خطر العديد من الزناديق، ممن روَّجوا لدين الفرس ووضعوا الأحاديث الكاذبة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا.[90][91] أثناء مسير المهدي لغزو الرُّوم الموسمي، قتل عددًا كبيرًا من الزنادقة ومزق كتبهم بالسكاكين في نواحي حلب.[72] عُدَّت مواجهة الزَّنادقة من مناقب المهدي في التاريخ. ومع ذلك، لم يسرع المهدي لقتل الزنادقة قبل أن يتبيَّن رأيهم فيما ينص عليه الشَّرع، فإن تاب الزنديق تركه، إلا إذا تأكد عودته إلى ما كان عليه.[92] ومن أشهر من قتلهم المهدي، صالح بن عبد القدوس، إذ كان يروج لأديان الفرس وأفكارهم عبر ما يقصه من الحكايات والأخبار والتاريخ، ومحمد ابن وزيره أبي عبيد الله معاوية بن يسار، ثم عزل الأخير خوفًا من حزنه على ابنه.[93][94] وقُتل أيضًا الشَّاعر بشار بن برد، ومما نُسب إليه شعرًا قال فيه:
وزاد ابن برد قوله بتكفير الصَّحابة ممن لم يبايعوا علي بن أبي طالب، ثم كفَّر عليًا لأنه لم يقاتلهم على عدم بيعتهم له. حاول المهدي ثني ابن برد عن إباحيَّة شعره، فلم ينتهِ، ليُجلد ابن برد بالسياط حتى موته سنة 168هـ / 784م. لم ينجُ أحدٌ ممن ثبتت عليهم الزَّندقة حتى لو كان من رجال الدَّولة، إذ قتل ابن وزيره محمد بن عبيد الله مما أبعد أبيه لاحقًا من الوزارة. ومع ذلك، فقد حلف المهدي ألا يقتل أحدًا من بني هاشم في خلافته مُحاولًا إصلاح علاقته مع العلويين، فاكتفى بسجن أحد أقاربه من أولاد عمِّه داود بن علي العبَّاسي، ويعقوب بن الفضل من ذرية الحارث بن عبد المُطَّلب، وكانا يُتهمان بالزَّندقة، موصيًا ابنه موسى الهادي بقتلهم والاستمرار في قتال الزنادقة حالما يتولى الخلافة من بعده، مُتقربًا إلى الله بقتلهم، قائلًا: «يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة (أي الزنادقة)، فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلالة الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له». وفي إطار حربه على الزَّنادقة، ظهرت طائفة دينيَّة منهم تُدعى المُحمَّرة في جرجان سنة 162هـ / 779م، لتبنيهم لبس الثياب الحمراء وبه عُرفوا، يقودهم رجُل يدعى عبد القهَّار، فوجَّه المهدي قائده عُمر بن العلاء من طبرستان، فقهر عبد القهَّار وقتله مع أصحابه.[95][96]
رأى المهدي في هارُون الرَّشيد من الذكاء والحكمة ورجاحة العقل، ما جعله يرغب في عزل الهادي من ولاية العهد لصالح الرَّشيد. بعث المهدي رسالةً إلى الهادي يطلُب حضوره إلى بغداد، بعد خروجه سابقًا لمُحاربة حاكمي طبرستان المُتمردين، ونداد هُرمُز، وشروين سنة 167هـ / 784م.[97][98] رفض الهادي القدوم إلى بغداد، وعلم بطريقةٍ ما أنه لا يوجد سبب لاستدعائه كل هذه المسافة إلا إذا كان الأمر ينطوي على عزله لصالح الرَّشيد، فبعث المهدي إليه رسولًا من جديد، ليقابله الهادي بضربه وإهانته، ممُتنعًا عن الحضور إلى بغداد، بعد إدراكه بنوايا أبيه وأمه في خلعه. غضب المهدي من تصرُّفه، وقرر المسير إليه لتطويع ابنه المُتمرد عليه في 11 مُحرَّم 169هـ / 23 يوليو 785م. وفي خلال مسيره، استراح المهدي في ماسبذان، من ولاية الجبال، ليتوفى فيها ويحول الأمر دون خلع الهادي، وتنتقل الخلافة إليه في 22 مُحرَّم 169هـ / 4 أغسطس 785م.[99][100]
خرج المهدي غاضبًا ومُتجهًا إلى جرجان لخلع ابنه موسى الهادي من ولاية العهد ومنحها لابنه الآخر هارُون الرَّشيد بسبب رفض الهادي القدوم إليه ثم إهانته رسول أبيه. وصل المهدي إلى منطقة تُدعى ماسَبَذان، فاستحسن البقاء بها مستريحًا في قرية الرَّذّ من ولاية الجبال،[100][101] ثم أرسل لزوجته الخيزران بنت عطاء للقدوم إليه، فجاءته في مائة هودج مُلبسة بالوشي والديباج، ففرح بها وبطيب الموضع وصفاء الزمان من الأكدار.[102] في اليوم الثالث من قدوم الخيزران،[102] تناول المهدي طعامه، وكان خبزًا ولحمًا باردًا، فأكله مع خواصه ثم قال لهم: «إني داخل إلى البهو أنام، فلا توقظوني حتى أكون أنا الذي أنتبه» ثم دخل البهو، في حين نام خواصه في الرواق. استيقظ خواصه ببكاؤه فجاؤوا مُسرعين إليه مُستفهمين عن سبب ذلك، فقال: «أرأيتم ما رأيت؟»، فأنكروا رؤيتهم شيئًا، فقال: «رأيت شيخًا لو رأيته بين مائة ألف لعرفته، وهو آخذ بعضادة البَهْو وهو يقول:»:[99][103][104]
فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى توفي بعد ما رآه ذلك اليوم،[99][103][104] وصلَّى عليه هارُون الرَّشيد الذي كان حاضرًا معه في الرَّذّ،[101] ثم أرسل البردة والقضيب وخاتم الخلافة مُعزيًا بوفاة والدهما، ومُهنئًا له بالخلافة.[105] تضاربت الروايات حول وفاة المهدي بعد ذلك اليوم، فقيل إن المهدي خرج للصيد فطاردت كلابه ظبيًا، وتبعه حتى دخل باب خربة وتبعته الكلاب، ثم تبعها فرس المهدي فدخلها فضرب الباب ظهره مما أدى لوفاته فورًا. تشير رواية أخرى إن إحدى جواريه أرسلت بإناء يحتوي على سم إلى جارية أخرى غيرةً منها، لكن المهدي تناول الطعام منه دون علم الجارية أنه مسموم. بعد اكتشافها للأمر، خافت وأخفت الحقيقة، لكن السم أثر سريعًا وأدى إلى وفاة المهدي. تشير رواية ثالثة قريبة من الثانية، أن جارية تُدعى حسنة، أعدت كمثرى مسمومة وأهدتها لجارية أخرى كان المهدي يتردد إليها ويُحبها، غير أن المهدي بسبب عشقه الكمثرى، أخذها وأكلها. شعر المهدي بالألم، وصاح قائلًا: «جوفي! جوفي!»، فجاءت الجارية وهي تلطم وجهها وتبكي قائلة: «أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي!». عادت حسنة وهي ترتدي المسوح على قبتها حزنًا على ما جرى له.[97][99][106]
الذكور
الإناث
كان المهدي طويلًا، أسمر البشرة تعلوه صفرة، جعد الشعر، في عينه اليُمنى نكتة بياض.[8][107][108]
كان المهدي شاعرًا بليغًا فصيحًا منذ صغره، وجوادًا كريمًا مُحببًا إلى الرَّعِيَّة، فمنذ توليه الخلافة، باشر في رد المظالم لأهلها، وفتح السُّجون مُطلقًا سراح السُّجناء إلا من كان عليه دمٌ أو فسادٌ في الأرض أو عنده حق لأحد، وأخرج ما كنزه المنصُور وفرَّقه بين الناس.[109] ومن سماحة أخلاقه، أنه ذهب مرةً إلى البصرة، وحين خرج ليُصلي بالنَّاس إمامًا، جاء أعرابي إليه قائلًا: «يا أمير المؤمنين مُر هؤلاء (المُؤذنين) فلينتظروني حتى أتوضأ»، فأمرهم المهدي بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يُكبِّر حتى أقبل الأعرابي وجاء إلى الصف، فكبَّر المهدي وصلَّى بهم، فتعجَّب الناس لصبره وسماحته.[97]
حين زار المهدي المدينة المُنوَّرة، دخل المسجد النَّبوي، فلم يبق أحد إلا قام له احترامًا، باستثناء الإمام العابد ابن أبي ذئب فإنه ظل جالسًا، فقيل له أنه أمير المُؤمنين، فقال ابن أبي ذئب: «إنما يقوم الناس لرب العالمين»، فأصابت المهدي قشعريرة قائلًا: «لقد قامت كل شعرة في رأسي».[110]
لما حاذى المهدي قصر الأمير الأموي مَسْلمة بن عبد الملك أثناء سيره لحرب الرُّوم منتصف سنة 163هـ / أوائل 763م، أخبره عمَّه العبَّاس المُذهَّب بأن لمسلمة في أعناق بني العبَّاس مِنَّة لكرمه مع جده محمد بن علي العباسي، فقد أعطاه أربعة آلاف دينار حين مر به وقال له: «إذا نفدت فلا تحتشمنا!». أحضر المهدي ذرية مَسْلمة ومواليه وأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأجرى عليهم الأرزاق.[72] وقفت امرأة للمهدي قائلةً له: «يا عصبة رسول الله اقض حاجتي»، فقال المهدي: «ما سمعتها من أحدٍ غيرها، اقضوا حاجتها واعطوها عشرة آلاف درهم».[111] دخل ابن الخيَّاط المُكِّي الشَّاعر على المهدي، فامتدحه ليأمر له بخمسين ألف درهم، ففرَّقها ابن الخيَّاط ثم أنشد قائلًا:
وحين بلغ ذلك المهدي، أمر بإعطائه بدل كل درهمٍ دينارًا.[111]
سار المهدي على نهج أبيه المنصُور في تحصين المُدُن والثُّغور البريَّة والبحريَّة مع مملكة الرُّوم، في عهد الوصيَّة على العرش البيزنطي إيرين الأثينيَّة، فلا تنفك الصَّوائف الموسميَّة تنطلق من المناطق الإسلاميَّة للإغارة أو فتح قلاعٍ روميَّة والعكس يحدث، ومع أنه لم تحدث فتوح واسعة أو تُضم مُدُن كبيرة في عهد المهدي إلى حضن الخلافة الإسلاميَّة بصورة دائمة، غير أن الانتصارات على الرُّوم كانت كبيرة، فكثرت الغنائم، وازداد عدد الأسرى. أصر المهدي على بث هيبة المُسلمين في قلوب الرُّوم، فقد شهد عهده حملتين بارزتين، الأولى على الثُّغور سنة 162هـ / 779م، والثَّانية وصلت نواحي القُسطنطينيَّة في جُمادى الآخرة سنة 165هـ / يناير 782م.[112]
استهلَّ المهدي بداية حُكمه بضرب معاقل الرُّوم، فغزا العبَّاس بن محمد الصائفة (حملات عسكريَّة صيفيَّة) في سنة 159هـ / 776م، وتوغَّل في أرض الرُّوم حتى بلغ أنقرة وفتح مدينة لم تُذكر نواحيها، دون إصابة الجيش الإسلامي بأذى، وعاد الجيش من الحملة سالمين.[75] في السَّنة التالية، غزا ثمامة بن العبس الصائفة، في حين جال الأسطول الإسلامي بحر الشام لقتال الرُّوم بحريًا، بقيادة القائد الغمر بن العبَّاس الخثعمي.[113] تصاعدت الأحداث بشكلٍ كبير بين الطرفين في سنة 161هـ / 778م، فقد هاجت الرُّوم بقيادة ميخائيل البطريق، جامعًا نحو ثمانين ألف مُقاتل، فتوغَّل الرُّوم في نواحي مرعش، فقتلوا وسبوا وغنموا، ثم حاصروا مدينة مرعش، وكان الأمير عيسى بن علي العبَّاسي مُرابطًا مع المُسلمين المُحاصرين فيها. عجز البطريق عن اقتحام حصن مرعش، فانصرف عائدًا إلى جيحان مُتمركزًا بها. بلغ أنباء الهجوم الرُّومي الخليفة المهدي، فعظم عليه الأمر، وقرر تجهيز حملةٌ كبيرة على الثُّغور الرُّوميَّة للرَّد عليهم في الوقت المناسب.[114] في سنة 162هـ / 779م، خرجت الرُّوم إلى حصن الحدث الإسلامي، فهدموا سورها، ليرد المهدي بانتداب الحسن بن قحطبة الطَّائي قائدًا لحملة كبيرة من 80 ألف مُقاتل، فبلغ المسلمون حمَّة أذرولية ووصلت إحدى السرايا أرض عمُّوريَّة، فأحرقوا وخرَّبوا وأسروا أعدادًا كبيرة من الرُّوم، ومع أن الحملة لم تفتح حصنًا ولم تلق جمعًا من جانب الرُّوم، غير أنها كبَّدتهم خسائر كبيرة، إلى درجة قيام الرُّوم برسم صور الحسن بن قحطبة على جدران كنائسهم. وفي نفس السنة، تبع حملة الطَّائي، حملةٌ أخرى بقيادة يزيد بن أُسَيِّد السلمي في نواحي قاليقلا، ففتح ثلاثة حصون، وغنم وسبى من الرُّوم.[72][115]
أطلق المهدي نداء الجهاد لجمع الأجناد الإسلاميَّة من أنحاء خُراسان وغيرها، عازمًا على تولية ابنه هارون بن المهدي قيادة الجيش لاختبار قُدراته وتجهيزه مُستقبلًا، وقرَّر السير معه، مُستخلفًا وليَّ عهده الهادي على العاصمة بغداد. انطلق المهدي مُستصحبًا ابنهُ هارُون نحو أرض الثُّغور في جُمادى الآخرة 163هـ / مارس 780م، فاجتاز الفُرات، إلا أن استراحة المهدي في حلب واهتمامه بقتل الزنادقة في نواحيها، قد أخَّر مسيره بعض الشيء.[72] بعد إنهاء خطر الزَّنادقة في تلك الأنحاء، انطلق المهدي مع جيشه حتى وصل جيحان، فشيَّع هارُون وأمَّرهُ على رأس الجيش للتوجُّه نحو أراضي الرُّوم، ووكَّل عددًا من القادة والأُمراء من أمثال عبد الملك بن صالح، وعيسى بن مُوسى، وغيرهم لمرافقته، في حين قرر المهدي زيارة بيت المقدس وصلَّى في أقصاها.[116] سار الجيش نحو حصن سمالوا، فحاصرها ونصَّب المجانيق لإحراقها حتى استسلمت بعد 38 يومًا من الحصار، ففُتحت على أن لا يُقتلوا ولا يُهجَّروا، ووفى هارون بن المهدي لهم بما أرادوا، ثم فتح عددًا من الحُصون، وغنم أموالًا جزيلة عائدًا بالجيش والأعلام السَّوداء تُرفرف مع الغنائم إلى العاصمة بغداد، فاستقبلهُم الأهالي فرحين، وكافأهُ المهدي بتوليته واليًا على بلاد المغرب، وأذربيجان، وأرمينية، وجعل كاتبهُ على الخراج ثابت بن مُوسى، وعلى رسائله يحيى البرمكي.[116][117][118]
في السنة اللَّاحقة من تلك الحملة الكبيرة، قاد عبد الكبير بن عبد الحميد من ذرية زيد بن الخطَّاب، قيادة حملةٌ إسلاميَّة من درب الحَدَث سنة 164هـ / 781م، فقدِم عليه القائد الرُّومي ميخائيل البطريق ومعه طاراذ الأرمني في تسعين ألف مُقاتل، فخاف عبد الكبير، وأمر الناس بعدم قتالهم خوفًا عليهم ثم عاد بهم. اغتاظ الخليفة المهدي من تصرُّف عبد الكبير، حتى أراد قتله غير أنه شُفع فيه، فاكتفى بحبسه عقابًا له على تولِّيه.[119]
انزعج المهدي من فشل حملة عبد الكبير بن عبد الحميد، مانحًا الرُّوم نظرة بأن الخلافة ضعيفة أو تخشى من مواجهتهم، فأمر بحشد أعدادًا كبيرة من المُقاتلين المُسلمين والمُتطوِّعة، ورأى تولية ابنه هارُون قيادتها بعد نجاح حملته الأولى. توجَّه هارُون بن المهدي على رأس 95 ألفًا مُقاتل، ومعه الرَّبيع الحاجب، ويزيد بن مزيد الشيباني في حملةٍ جهاديَّة كبيرة نحو الرُّوم. انطلقت الحملة في 19 جمادى الآخرة 165هـ / 7 فبراير 782م.[120][121] توغل الأمير هارون في بلاد الروم، فاستهلّ حملته بفتح حصن ماجدة بعد مبارزة يزيد بن مزيد الشيباني مع قائد الحصن، نقيطًا قومس القوامسة، ثم سقط نقيطًا إلى الأرض إثر حركةٍ خاطئة منه، ليبادره الشيباني بضربة قاضية أردته قتيلًا. أدت هزيمته لانهيار معنويات الحامية الرُّوميَّة داخل حصن ماجدة، ليسارعوا تسليم الحصن سلمًا. افترق الجيش الإسلامي في حملتين، الأولى بقيادة الشيباني إذ سار لمُلاقاة الدُّمُستُق البيزنطي في نقمُودية، ليحمل لهم الأخير 193 ألف دينارًا ومبلغًا كبيرًا من الدراهم. أكمل هارُون بن المهدي توغُّلَهُ في بلاد الرُّوم حتى وصل خليجُ القُسْطنيطيَّة، مُهددًا العاصمة البيزنطيَّة القُسْنطينيَّة بذلك.[122]
أدركت الوصيَّة على العرش إيرين الأثينيَّة بمدى الخطر الذي يُهدد مُلك البيزنطيين، فبادرت بإرسال السُّفراء طلبًا للصُّلح ودفع الجزية، وتعهدت بدفع جزية قدرها 70 ألف دينار، وقيل 90 ألفًا، على ثلاثة سنوات، فوافق الأمير هارُون، لتنتهي الحملة بمقتل 54 ألفًا من الرُّوم وسبي ما يُقارب خمسةُ آلاف منهم أثناء الحملة.[121][122] تعتبر الحملة هي الأخيرة من الحملات العسكريَّة التي قادها العرب نحو القسطنطينيَّة، ثلاث حملاتٍ قام بها أوَّل خُلفاء بني أميَّة، معاوية بن أبي سُفيان (34 و48 و54 هـ / 665 و668 و674 م)، والرَّابعة في عهد سُليمان بن عبد الملك (98 هـ / 716م)، والأخيرة في عهد مُحمَّد المهدي. فُتحت القُسطنطينيَّة أخيرًا على يد السُّلطان العُثماني محمد الفاتح سنة 857هـ / 1453م.[123][124] تمثَّل الشَّاعر مروان بن أبي حفصة الأموي مُحتفلًا بالانتصارات على الرُّوم في عهد الخليفة المهدي، قائلًا:[80]
استمرَّت الهدنة بين المُسلمين والرُّوم قرابة العامين والنصف، فلم يكن هنالك صوائف فيهما، حتى نقض الرُّوم الهدنة مع دولة الخلافة في شهر رمضان سنة 168هـ / مارس أو أبريل 785م، ليُوجِّه والي الجزيرة وقِنّسرين علي بن سُليمان العبَّاسي، القائد يزيد بن البدر بن البطَّال على رأس الخيَّالة، فغنموا وظفروا من الرُّوم، وكانت آخر الاحتكاكات مع الرُّوم في عصر المهدي.[74]
ورث المهدي علاقة عدائيَّة مع عبد الرَّحمن الدَّاخل الأموي الذي تمكَّن من إنشاء إمارة مُستقلة في عهد المنصُور، وحاول الأخير دعم حملة العلاء بن مغيث لإعادة الأندلس إلى طاعته، غير أنها باءت بالفشل. وجد المهدي فرصة مُناسبة لدعم حركة عبد الرَّحمن بن حبيبٍ الفهري، المعروف بالصَّقلبي، داعيًا للخلافة في الأندلس حال انتصاره على الدَّاخل الأموي. في سنة 161هـ / 776م، عبر الصَّقلبي البحر قادمًا إلى الأندلس من إفريقية، على رأس حملة عسكريَّة، فنزل ساحل منطقة تدمير، ثم راسل سُليمان بن يقظان الأعرابي، حاكم برشلونة، داعيًا إياه لتوحيد الجبهة لمحاربة عبد الرحمن الأموي وإعادة الأندلس لطاعة الخلافة الإسلاميَّة في بغداد. رفض سليمان بن يقظان دعوة الصَّقلبي، مما أغضب الأخير كثيرًا. توجَّه الصقلبي بجيشه نحو برشلونة برفقة عدد كبير من البربر لانتزاعها منه. هُزم الصَّقلبي على يد سليمان، ما اضطره للانسحاب إلى تدمير مرة أخرى. لم يمض وقت طويل حتى تحرك عبد الرحمن الأموي نحو الصقلبي بجيش ضخم، في محاولة للقضاء على تهديده بشكل نهائي. أحرق الأموي السفن ليُضيِّق على الصقلبي ويمنعه من الهرب. توجَّه الصَّقلبي إلى جبل منيع في منطقة بلنسية. ومع تضييق الخناق عليه، عرض عبد الرحمن الأموي مكافأة قدرها ألف دينار لمن يأتيه برأس الصقلبي. تمكن أحد البربر الذين خانوا الصَّقلبي من قتله وحز رأسه سنة 162هـ / 778م، ثم جاء به إلى عبد الرحمن الأموي، لينال المكافأة الموعودة. تعد محاولة الصقلبي آخر مُحاولة عبَّاسية لاستعادة الأندلس.[114]
لم تكن العلاقة مع ممالك الهند المُختلفة على ما يُرام، وكانت حدود الخلافة العبَّاسية تصل نهر مهران الفاصل بين السِّند والهند، فوجَّه المهدي القائد عبد الملك بن شهاب المِسْمعي مع مجموعة من المُتطوعين وغيرهم في سنة 160هـ / 776م، عابرًا الخليج والمُحيط الهندي، بهدف الإغارة على مدينة باربد من بلاد الهند، فنصبوا المنجنيق، وشرعوا في الهجوم بعد يوم من وصولهم. بعد حصار دام يومين، وتحت قراءة القُرآن وبث الحماس بين المُسلمين، تمكنوا من فتح المدينة عنوة، ودخلت خيولهم من جميع الجهات، مما أجبر المدافعين على التراجع إلى داخل المدينة. أشعل المسلمون النيران والنفط في المدينة، مما أدى إلى حريق هائل فيها. قُتل نحو عشرين مُسلمًا خلال المعركة، في حين قُتل معظم المدافعين. أقام المُسلمون في المدينة حتى تتحسن أحوال الريح في البحر، وبسبب انتظار تحسن الطقس، أصيبوا بوباء في المدينة، أسفر عن وفاة ألف رجل، بينهم الربيع بن صبيح أحد وجوه الغزوة. بعد تحسن أحوال الطقس، تمكنوا من الإبحار وبلغوا ساحلًا من فارس يُعرف ببحر حمران، غير أن عاصفة ليلية دمرت معظم مراكبهم، فغرق البعض ونجا البعض الآخر. وصل الناجون أخيرًا إلى مُحمَّد بن سليمان العبَّاسي، والي البصرة، ومعهم أسرى، بما فيهم ابنة ملك باربد.[69][113][125]
مات في عهد المهدي شعبة، وابن أبي ذئب، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي، وبشار بن برد، وحماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان، والخليل بن أحمد.
قال الصولي: حدثني إسحاق بن إبراهيم القزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي، سمعت المهدي يقول: حدثني أبي عن أبيه عن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه، أن وفدًا من العجم قدموا على النبي وقد أحفوا لحاهم وأعفوا شواربهم، فقال النبي خالفوهم، اعفوا لحاكم واحفوا شواربكم.
فقال المهدي: يُعزل كل عامل لنا يُدعى حاتمًا.
قلت وهو أول من قال ذلك في الخطبة وقد استنها الخطباء إلى يوم.
قال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي، حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدي، فوجدته واضعًا خده على الأرض وهو يقول: اللهم احفظ محمدًا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك. قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه.
قال: فتحدث بها ذلك الزمان ونحن لا نعرف المهدي حتى ولي المهدي، فدخل مسجد الرسول فرفع رأسه فرأى اسم الوليد فقال: أرى اسم الوليد إلى اليوم؛ فدعا بكرسي فألقي في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه؛ ففعل ذلك وهو جالس.
وأسند الصولي عن محمد بن عمارة قال: كان للمهدي جارية شغف بها وهي كذلك، إلا أنها تتحاماه كثيرًا، فدس إليها من عرف ما في نفسها، فقالت: أخاف أن يملني ويدعني فأموت فقال المهدي في ذلك:
وله في نديمه عمر بن بزيع:
ومن شعره:
Seamless Wikipedia browsing. On steroids.
Every time you click a link to Wikipedia, Wiktionary or Wikiquote in your browser's search results, it will show the modern Wikiwand interface.
Wikiwand extension is a five stars, simple, with minimum permission required to keep your browsing private, safe and transparent.