Loading AI tools
الخليفة العبَّاسي الرَّابع عشر (حكم 255 – 256هـ / 869 – 870م) من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أمِيرُ اَلْمُؤْمِنِين وَخَلِيفَةُ المُسْلِمِين الإمامُ الزَّاهِد والتَّقيُّ العابِد أَبُو عَبدِ الله مُحَمَّد المُهْتَدي بِاللَّه بْن هَارُون الواثِق بْن مُحمَّد المُعْتَصِم بن هارُون الرَّشيد بن مُحَمَّد المِهْديّ العبَّاسيُّ الهاشميُّ اَلقُرشيّ[1] (218 - الثَّامِن عَشَر من رَجَب 256 هـ / 833 - الثاني والعُشرون مِن يُونيو 870 م)، المعرُوف اختصارًا بإسم المُهْتَدي أو المُهْتَدي بالله، هو الخليفةُ الرَّابِع عَشَر مِن خُلَفاء بَني العبَّاس، حَكَم دَوْلة الخِلافَة العَبَّاسيَّة في المَراحل الأخيرة مِن فَوْضَى سامرَّاء، وذلك منذ التَّاسِع والعُشْرُون مِن رَجَب 255 هـ / 13 يُوليو 869 م حتى مقتله.
أميرُ المُؤْمِنين | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
مُحَمَّد المُهْتَدي بِالله | |||||||
مُحَمَّد بنُ هارُون بنُ مُحَمَّد بنُ هارُون بنُ مُحَمَّد بنُ عبدُ الله بنُ مُحَمَّد بنُ عَلِيُّ بنُ عَبدُ الله بنُ العَبَّاس الهاشِميّ القُرَشيّ العَدنانيّ | |||||||
تخطيط باسم الخليفة مُحَمَّد المُهْتَدي بالله | |||||||
معلومات شخصية | |||||||
الميلاد | 218 هـ / 833 م القاطُول، سامرَّاء، الخِلافَة العبَّاسيَّة | ||||||
الوفاة | 18 رَجَب 256 هـ (22 يُوليو 870 م) (37 عاماً) سامَرَّاء، الخِلافَة العبَّاسيَّة | ||||||
الكنية | أبو عبد الله أبو إسْحاق | ||||||
اللقب | المُهْتَدي الخليفة الزَّاهِد سادِس الخُلَفاء الرَّاشِدين | ||||||
العرق | عربي | ||||||
الديانة | مُسْلِمٌ سُنّيٌ | ||||||
الأولاد | طالع ذُريته | ||||||
الأب | هارُون الواثِق بِالله | ||||||
الأم | قُرب الرُّوميَّة | ||||||
عائلة | بنو العباس | ||||||
منصب | |||||||
الخليفةُ العَبَّاسيُّ الرَّابِع عَشَر | |||||||
الحياة العملية | |||||||
معلومات عامة | |||||||
الفترة | 29 رَجَب 255 - 16 رَجَب 256 هـ 13 يُوليو 869 - 20 يُوليو 870 م (إحدَى عَشَر شَهْراً وواحِد وعُشْرُون يَوماً) | ||||||
|
|||||||
السلالة | عَبَّاسِيُون | ||||||
المهنة | سياسي، وخليفة المسلمين | ||||||
اللغات | العربية | ||||||
تعديل مصدري - تعديل |
بُويِعَ المُهْتَدي للخِلافَة في فَترة فَوْضَى سامَرَّاء، حيث ورث أزمة كبيرة عصفت بدولة الخِلافة العبَّاسِيَّة منذ تسعةِ أعوام، والتي شهدت تحكُّم القادة الأتراك لمقاليد الأمور، حيث قتلوا خُلفائها بدءًا من المُتوكِّل ثم المُنْتَصِر والمُسْتَعين والمُعْتَز وخلعهم من الحُكم، ما سبَّب خُروج وِلايات وأقاليم عن سُلطتهم شيئًا فشيئًا، ومع أن المُهْتَدي لم يكُن طامِحًا بالخِلافة، إلا أنه وجدها فرصة لاستعادة السُّلطة التي استأثر بها الأتراك، فحاول في البداية إجراء إصلاحات عديدة، إلا أنه أدرك مع مرور الوقت عدم جدواها، وأن التخلُّص منهم بات مطلوبًا لتصحيح حال الدَّولة.
حاول المُهْتَدي أن يُوقع بين القادة الأتراك الذين خلعوا وقتلوا أربعة خُلفاء سابِقاً لإعادة هيبة الخِلافة واستعادتها، إلا أنَّهُم فطنوا لأمره، واتفقوا على خلعِه، وهو ما حدث بعد سنةً وشهرًا واحدًا منذ توليه الخِلافة، ثُمَّ قتلوه بعد أيَّامٍ من التعذيب، وكان النَّاس في حُزنٍ بسبب عدالته واتِّصافِهِ بالزُّهد الشديد المُكافئ لعُمر بن عبد العزيز الأموي.
بُويع أحمد المُعْتَمِد على الله خليفةً مِن بعده، والذي استطاع مع أخيه المُوفَّق بالله من وضع حد للإنقلابيين التُّرك، فاستعادت الخِلافة العبَّاسِيَّة قُوتها، وانتعشت على مدار العُقود التالية القليلة حتى دخل البُويهيُّون لبَغْدَاد ودخلت الدولة عهدِها الثَّالث.
هو مُحَمَّد المُهْتَدي بن هارُون الواثِق بن مُحَمَّد المُعْتَصِم بن هارُون الرَّشيد بن مُحَمَّد المِهديّ بن عبد الله اَلمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عليّ بن عَبدِ الله بن العبَّاس بن عبد المُطلب بن هاشِم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرة بن كَعب بن لُؤي بن غالِب بن فَهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خُزَيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مَضَر بن نِزار بن مُعد بن عدنان.
أما والدتُه فهي أُم وَلَد رُوميَّة، اسمُها قُرب،[2][3] وقيل وَردة.[4]
وُلد مُحَمَّد بن هارُون في بداية خِلافة جدِّهِ مُحَمَّد المُعْتَصِم بالله، في القاطُول، وهي من نواحي سامَرَّاء، عام 218 هـ / 833 م.[4] تولَّى أباه هارُون الواثِق بالله للخِلافة بعد المُعْتَصِم في الثَّامِن عَشَر من ربيعُ الأوَّل سنة 227 هـ / الخامِس من يناير 842 م، حينما كان مُحَمد يبلغُ من العُمر 9 أعوام.[5]
حين تُوفي أبوه الواثق بعد قرابة خمسة سنوات من الحُكم، لم يكُن قد عهد لأحد من بعدهِ للخِلافة، وقد احتار القُضاة والقادة فيمن يُعينوه خليفةً له، وكان من في المجلس، القاضي المُعتزلي أحمَد بن أبي دُؤاد، والكاتب عُمر بن فرَج الرُّخَّجِيُّ، والوزير عبد المَلِك ابن الزيَّات، وأبُو الوزير أحمد بن خالد، والقائد التُّركي وصيف، حيث عزموا على البيعة لمُحَمَّد بن الواثِق، وهو خليفةُ والده بالتأكيد، وكان غُلامًا ذو جسدٍ بطُولٍ قصير لم يتجاوز الرَّابِعة عَشَر من عُمره، فألبسوه دُرَّاعة سوداء، وقلنسوة، إلا أن الدُرَّاعة كانت طويلةً عليه، فنظر وصيف لذلك وأبدى اعتراضهُ قائلًا: «أما تتَّقُون الله ؟ تولُّون هذا الخِلافة! فتناظروا فيمن تولُّونه»، فذكروا عدة أسماء من بَني العبَّاس، حتى استقرُّوا على عمِّهِ جَعْفَر بن المُعْتَصِم، وكان حينئذ يبلغ من العُمر 26 عامًا.[6]
لا يُعرف الكثير عن حياة مُحَمَّد بن الواثِق بالله قبل الخِلافة، إلا أنه عاصر حياة هادئة في فترة عمِّهِ جَعْفَر المُتوكِّل على الله الذي عاشت فيها البلاد فترة مُستقرة نسبيًا ومُزدهرة، ثم رأى فيها انقلاب التُّرك على عمِّهِ جَعْفَر وقتلهم إياه في سنة 247 هـ / 861 م، ومن تولي ابن عمِّه الخليفة المُنْتَصِر بعد أن تحالف التُّرك معهُ في البداية،[7] والذي سُرعان ما تُوفي مسمومًا بعد ستة أشهر من خِلافته.[8] وبعد أن بُويع ابنُ عمِّه أحْمَد المُسْتَعين بالله، استقرَّت لهُ الأمور في البداية رُغم تصاعد الأحداث، إلا أن جماعة من التُّرك الثائرين حرَّضوا ابن عمِّه مُحَمد المُعْتز بالله على الخِلافة،[9] ومع مرور الأحداث، خلع المُسْتَعين نفسهُ من الخِلافة عام 252 هـ / 866 م، إلا أن المُعْتَز قتلهُ لاحقًا،[10] وبعد سنوات قليلة من الأحداث الدامية، خلع الأتراك المُعْتَز من أجل أرزاقهم في السَّابع والعُشرون من رَجَب 256 هـ / 9 يُوليو 869 م.[11]
حينما عَزِمَ الأتْراك على خَلْع الخليفة مُحَمَّد المُعْتَز بِالله بسبب عدم تمكُّنه من دفع أرزاقِهِم، ولأن بيت المال كان فارغًا نتيجة الفوضى والصِّراعات الدامية التي شهدتها العِراق، اتَّفق الأتْراك مع المَغارِبَة والفراغِنة على خَلْعِه، فساروا إليه، وكان على رأس المُتآمرين إلى دار الخَليفة صالِح بن وصيف التُّركي، ومُحمَّد بن بُغا ومعهم بابَكْيال، وكانوا مُدججين بالسُيوف، فوقفوا على بابِه، وبعثوا إليه أن يخرُج إليهم، فتعذَّر بشُرب دواء، وبتَعب يجِده، فإن كان أمراً كبيراً فسمح بإدخال بعضهم، وهو يعتقد أن الأمور طبيعية، فدخلوا إليه بالقوَّة، وجرُّوه من أقدامِه إلى باب الحِجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصُه، وأقاموه في الشَّمس، وكان بعضهُم يضربُه وهو يحاول الاتَّقاء بيده، ثم أدخلوه حُجرة، وأحضروا ابن أبي الشَّوارب، وجماعة ليشهدوهم على خلعِه، وشهدوا على صالح بن وَصيِف أنَّ للمُعْتَز ووالدتهُ وأُخته الأمان، إلا أنه لم يكن أماناً فعلياً كما يبدو لاحقاً.[12]
وفي الفترة نفسها التي خلعُ بها مُحَمَّد المُعْتَز بِالله، كان مُحَمَّد بن الواثِق بالله، مِنفياً من الخليفة المُعْتَز إلى بَغْدَاد، فاستُدعي بين يومٍ وليلة إلى سامَرَّاء، ودخل إلى قَصْر الجَوْسَق، وعُرض عليهِ الخِلافَة، إلَّا أنه رفض ولم يقبل ببيعة أحد إليه، وقال: «لا أفعل حتى أسمع بأذني خلع المُعتز نفسُه فالمثل السائر: لا يجْتمع فَحلان في شُول، ولا سيفان في غُمد»،[3] فجيء بالمُعْتَز إليه، وكان قميصَهُ مُدنَّساً، وعلى رأسِهِ مَنديل، فلما رآه مُحَمَّد بن الواثِق، قام إليه، وعانقهُ، بالرُّغم مِن أنه نفاه سابقاً، فجلسا على سرير الخِلافَة، فقال لهُ مُحَمَّد: «يا أخي ما هذا الأمر ؟» فرد عليه المُعْتَز: «أمرٌ لا أطيقُه، ولا أقوم به، ولا أصلِحُ له»، وأخبرهُ مُحَمَّد أنه مُستعد أن يتوسَّط لهُ، ويُصلح الحال بينهُ وبين الأتْراك، فقال المُعْتَز: «لا حاجة لي فيها، ولا يُرضوا بي»، فأحلَّهُ المُعْتَز مِن بيْعَتِه، وعاد إلى محْبَسِه.[2] وقيل أنَّهُ بعد أن سلَّم عليه بالخِلافة، وجلس بين يديّ المُعْتَز، فقيل لأبو عَبد الله مُحَمَّد بن الواثِق: «اِرتَفِع»، قال: «لا أرتفع إلا أن يرفعني الله بخلافَتِه»، فالتفَتَ إلى المُعْتَز وقال لهُ: «يا أميرُ المُؤمِنين، خلعت أمر البريَّة عن عُنُقك طوعاً ورغبة، وكُل من كانت لهُ في عُنُقِه بيعة فهو بريء منها ؟»، فجاوبهُ المُعْتَز مِن الخوف: «نعم!»، فقال: «خار الله لنا ولك يا أبا عبد الله»، ثُم ارتفع حينئذ إلى صدر المَجْلِس، وبايعهُ النَّاس.[3]
وكان المُهْتَدي حسبما يُورد المُؤرِّخ المُحِيميد، أنه يهدف القصد من ذلك أن يُؤكد لمن حوله أنه لم يطمح في الوُصول إلى الخِلافة، وأنه كان يخشى في إيقاع نفسِه في الفخ الذي نصبهُ الأتراك حينما بايعوا المُعْتَز على الخِلافة ووافقهم على ذلك، حينما كان المُستعين ما زال قائمًا على رأس الخِلافة في بَغْدَاد مِما سببَّ اشتعال صِراعًا بينهما، وكان يهدُف إلى جانب ذلك والأهم، حُصوله على أوسع تأييد، فهي بمثابة التأييد لكُل ما كان يُخطط لهُ من إصلاحات إداريَّة واجتماعيَّة.[13]
منع الأتْراك المُعْتَز بِالله مِن الطَّعام والشَّراب ثلاثة أيَّام، بعد بيعة المُهْتَدي ودون إشرافه أو قدرته على منع ذلك، ثم أدخلوه سرداباً، وجصّصوا عليه فمات عطِشاً، وأشهدوا عليه بَني هاشِم والقادة، ودفنوه مع المُنْتَصِر بِالله. وكانت خِلافتُه أربَع سَنَوات وستَّة شُهور، وكان عمرُه أربع وعَشْرُون عاماً، وذلك حَصَل بعد أن بايَع المُهْتَدي بِالله.[12]
أشهد المُعْتَز على نفسِه بأنه عاجز عن القيام بأمر الخِلافَة، وأنَّهُ يرغب بتولّي مُحَمَّد بن الواثِق بِالله لمنصب الخَليفة، ثُم مد يدَه، وكان أوَّل المُبايعين له، وذلك في يوم الأربعاء، في التَّاسِع والعشرين مِن رَجَب 255 هـ / الحادي والعشرين مِن يُوليو 869 م، ولُقِّب بالمُهْتَدي بِالله، وكان يبلغ من العُمر 36 عامًا، فبايعهُ الخاصَّة دوناً عن العامَّة في البداية، إذ حين علم أهالي بَغْدَاد بالأمر، حدث شَغَب كبير في المدينة وهاجَ النَّاس على نائبها سُليمان بن عَبدُ الله بنُ طاهِر، ودعوا لمُبايعة أبي أحمَد بن المُتَوكِّل على الله، أخٌ المُعْتَز، ووقع بين الناس قتل وسفك بسبب عدم علمِهم بما جرى في سامَرَّاء بعد وفاة المعتز، إلا أنه وبعد أن فُرِّق بينهم المال لاسترضائهم باسم الخليفة المُهْتَدي،[14] بايعهُ جُلّ الناس بعد ثمانية أيَّام، وذلك في السَّابِع مِن شَعْبان / التَّاسِع والعُشْرُين مِن يُوليو.[15]
كان الخليفة المهْتدي بِاللَّه رَجُلا تقيًّا، وشُجَاعاً، وسِياسِيًّا، وحازمًا، ومُحبًّا لِلْعدْل والرَّعِيَّة مُتقيِّدًا بِسيرة الخَليفةُ الأُمَويّ عُمَر بْن عَبْد اَلعزِيز فِي العدالةِ والْحُكْم والتقشُّف، فقد أمَرَ بأن يُنفي المُغنّين، والعازِفين من العاصِمة العَبَّاسيَّة سامَرَّاء وألحقها بإبطال الملاهي، كما أمَرَ بقتل السِّباع والنُّمور التي كانت في دار السُّلْطان، ووجَّهَ بقتل الكِلاب المُعدَّة للصيد، وردَّ المَظالِم إلى أهلِها، ونادى بأن يُؤمر بالمَعْرُوف ويُنْهَى عَن المُنْكَر، وجلس لِلعامَّة.[16] كما أنه أصبح يحضر كُل جُمعة إلى المسجِد الجامِع، فيخطُب بالحاضرين، ويعظِهم ويُذكرهم بالآخرة، ويُصلي إمامًا بهم، في حين كان بعض أسلافِه منذ المُتوكِّل يندبون عنهم من يخطُب بالناس أيام الجُمع والأعياد. أمر أيضًا بطمس وإحراق الصُّور التي كانت في المجالس، وبإخراج أواني الذَّهب والفِضَّة من الخزائن فكُسرت واستُبدلت بضربِها بالدنانير والدَّراهم، وأمر بذبح الكِباش والدُّيوك التي كان يُناطح بها في سبيل التسلية بين يدي الخُلفاء.[17]
لم يقف الخليفة المُهْتَدي عند الإصلاحات الدِّينية فحسب، بل أولى النواحي المالية قدرًا كبيرًا من الأهمية، وكان يُدرك أنها ذات قيمة كُبرى في سير أعمال الدولة، وقد بدأ بتخصيص مائة درهم يوميًا لنفقاته الشَّخصية، وبلغ إجمالي نفقاتُه على أهلِهِ، وولدِه، وخدمِه، وحشمِه طوال مُدة حُكمه 15 ألف دينار، في حين كان بعض الخُلفاء الذين سبقُوه يُنفقون على موائدهم في كل يوم 10 آلاف درهم، ما يُوضِّح الفجوة الكبيرة في السياسة المالية بين المُهْتَدي وأسلافِه.[18]
وقد اتسعت دائرة الإصلاحات المالية فشملت رواتب الجُند، حيث قرر أن تُدفع على أساس الأيام لا الشُّهور، ليكُن في مأمن من ثوراتِهم وشَغَبِهم، حتى إذا نقصت الأموال في بيت المال يومًا، حسم ذلك اليوم عليهم بدون مُشاغبة. وقد رأى المُهْتَدي أن تُدفع رواتب الجُند في الجيش العبَّاسِيّ على حسب نوعيَّة الفرق العسكريَّة التي ينتمون إليها، فكان الجنديّ من فرقة الأتراك يتقاضى درهمين يوميًا، في حين كان زميلُه في فرقة المغارِبة يتقاضى درهمًا واحدًا، ما يعكس بشكلٍ واضِح مدى قُوة نُفوذ العناصر التُّركيَّة وتحكُّمهم في البلاط العَبَّاسِي لإعطاء الأتراك أفضلية دون غيرهم.[19]
حين تبيَّن للمُهْتَدي أن جماعة من الوزراء والرُؤساء قد أهملوا أعمالهم، لم يتوان في القيام بتأديبهم، حيث فوض أمرهم إلى كبير حُجَّابِه صالِح بن وصيف التُّركي، وكان المُتهمان هُما الكاتبين أحْمَد بنُ إسرائيِل الأنْبَاريّ، وأبي نُوح عيِسى بن إبراهيم، حيث اعتُقلا وأُخرجا إلى باب العامة في سُرَّ من رأى وجُلدا كُلًا منهما 500 سُوط، إلا أن صالح قد حقق أوامر الخليفة، وبالغ في تعذيبهما وفعل بهما ما لم يطلبهُ الخليفة منه، حيث أنه بعد جلدهِما، واستِخلاص أموالهِما، طاف بهما على بَغْلين مُنكَّسين، فلقيا المَوْت وهُم على هذا الوَضْع، وكان موتهُما في يوم الخميس، في السَّابِع والعشرين مِن رَمَضان 255 هـ / الحادي عَشَر مِن سَبْتَمْبَر 869 م،[20][21] قال: «أمَا عُقوبة إلَّا السُوط والقَتْل ؟ أما يكفي الحَبْس ؟ إنَّا لله وإنَّا إليهِ راجِعُون!» وكرَّر ذلك مِراراً.[20]
كان الخليفة المُهْتَدي حازِمًا في العدالة وتطبيقها، ومن يخرج عن جادة الصَّواب، حتى وإن كان من أفراد أُسرتِه وعشيرته، فقد طال عقابُه جماعةً منهم حينما بلغهُ أنهم اختلسوا شيئًا من أموال الدَّولة بغير وجه حق، فأمر بنفي قبيحة والدة المُعْتَز وابنها عبدُ الله، ومعهما أبو أحمد مُحمد طَلحة إلى مَكَّة.[20] ولم يتردد في تأديب اقنين من قُضاة سُرَّ من رأى، وهُما حمَّاد بن إسحاق، والحَسَن بن أبي الشَّوارِب، حيث أمر بإركاب الأوَّل على بغل وأن يطُوف به في المدينة، ثم نُفي إلى الأهْواز. أما القاضي الثاني فقد عُزل عن القضاء وأُلقي في السجن، وولَّى بدلًا منه عبد الرَّحمن البصري.[22]
ثارت فتنة كبيرة في بَغْدَاد حيث ثار الجُند احتجاجًا على إيواء والي الشُّرطة نفسه جموعًا من الخُراسانيين الفُرس، من الموالين للطَّاهِريُّون، وقد كانت هذه الجماعة الفارسيَّة قد أساءت مُعاملة أهل بَغْدَاد، وارتكبوا أعمالًا فظيعة، وحقد الناس عليهم، ثم ثطورت هذه الفتنة بعد أن رأى أهالي بَغْدَاد أن والي الشُّرطة مُحَمد بن طاهِر الثاني قد تعاطف مع أولئك الفُرس لدرجة أنه اختلس أموال الجُند ووزعها عليهم، حينها شَغَب الجُند وغضبوا من ذلك، وقرروا العصيان على الخليفة، كما وجدوا مُساندة قوية من عامة الناس، وكان ذلك في رَمَضان 255 هـ / أواخر أُغُسْطُس 869 م.[23][24]
اشتدت هذه الفتنة ضراوةً حينما اقتحم الجند السُّجن العام في بَغْدَاد وأطلقوا سراح السُّجناء، لتندلع حربًا بين الخُراسانيين وجُند بَغْداد في شوارعها وميادينها، فاضطَّر القائد الخُراساني مُحَمد بن أوس الخروج نحو الجزيرة الفُراتية، ليلحقهُ عددًا كبيرًا من أهالي بَغْدَاد وعسكرها الغاضبين، فاشتبك الطرفان شِمال العِراق حتى انهزم الخُراسانيين.[24] ونتيجةً لذلك، أصبح موقف والي الشُّرطة مُحمد بن طاهِر الثَّاني حرِجًا للغاية أمام الخليفة المُهْتَدي، نظرًا لانتمائهِ إلى الأسرة الطَّاهِريَّة التي حظت بعناية ودعم الخُلفاء العبَّاسِيين منذ المأمُون، والتي قد تُؤدي تفاقهما لفقدان أُسرته جميع مكانتهم المرموقة، فطلب ابن طاهِر من مُحَمد بن أوس البَلخيّ أن يرحل نهائيًا عن العِراق، ويعود مع أتباعه إلى خُراسان.[23][24] وكان هذا الشَغَب أوَّلُ جانبٍ من عِلَّة الخِلافة في عصر المُهْتَدي، لعدم وجود وُلاة مُخلصين له، حيث أن ابن طاهِر فضَّل أبناء جنسه الفُرس وأهمل مصلحة الخِلافة، وتُعد واحدة من عقبات المُهْتَدي في مُستهلَّ خِلافتِه.[25]
من المشاكل التي شُغل فِكر الخليفة المُهْتَديُّ بها هو الخِلاف الذي نشب بين كبير حُجَّابِه صالِح بن وصيف التُّركي ووالدة الخليفة المُعْتَز قبيل حُكمه، قبيحة المُتوكِّليَّة، فقد كانت الأخيرة ذات نُفوذٍ ومال وجاه كبير في عهد ابنها، وقد تواطأت مع جماعة من أنصارِها على قتل صالِح حين كان مُقدَّم قُوَّاد الأتراك، إلا أن اكتشافِهِ للمُؤامرة حال دون ذلك، فلما قُتل ابنها المُعْتَز، اختفت داخل سربٍ في قصرِها لفترة من الزمن.[25]
وبعد تولِّي المُهْتَدي للخِلافة اضطَّرت للخُروج، وسعت إلى مُصالحة صالِح، فوافق على طلبِها، على شرطٍ أن تسمح لهُ بمُصادرة أموالها التي قُدرت بمليون و800 ألف دينار، ما يُعد ثروة كبيرة آنذاك، فضلًا عما عثر عليه لديها من خزائن وجواهر مدفُونة تحت الأرض، فذمَّها صالِح وقال: «عرَّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كُلَّها!».[23] شعر المُهْتَدي بالقلق من ظُهور قبيحة والدة المُعْتَز ومُحاولاتها الرَّامية للتقرُّب من حاجبهِ صالح، حيث كانت تهدف إلى إحياء ما كان لها من نُفوذ وجاه في خِلافة ابنها، واعتبر المُهْتَدي أن هذه الخُطوة تُشكل تهديدًا جديًا لخِلافتِه ومحاولتهِ الإصلاحية، ما جعلهُ يأمر بإبعادها عن سُرَّ من رأى نحو مدينة مَكَّة المُكرَّمة بصحبة بعض رجالِه لمُراقبتها، وبقيت هناك أقل من سنة، أي حتى مقتل المُهْتَدي.[25]
اندلعت في جُنوب العِراق ثورةً تُعتبر من أهم التَّحديات التي واجهت الخليفة المُهْتَدي بالله، بل والخِلافة العبَّاسِيَّة نفسها، وكان لها دورٌ في إرباط خُططه الإصلاحيَّة للخِلافة، وهي ثورة عُرفت باسم ثَوْرَةُ الزَّنج، بالقُرب من مدينة البَصْرة في شوَّال 255 هـ / سَبْتَمْبَر 869 م، وكان قائدُها عَلِيُّ بن مُحمد قد ادَّعى نُسبته إلى أهلِ البَيْت، يستغل الفوضى السياسية التي حدثت نتيجة فَوْضى سَامرَّاء وأثَّرت على مدينة البَصْرة، لكونها تمتلئ بالعبيد الذين كانوا يستوطنون السباخ، ويستصلحون الأراضي الزِّراعيَّة، كما أنها كانت مسرحًا لبعض الحُروب القِبليَّة، خاصةً بين قبيلتي البلاليَّة والسعديَّة.[26]
ألقى عَلِيُّ بن مُحمد خُطبته على أتباعِهِ العبيد في عيد الفِطْر سنة 255 هـ / الخامِس عَشَر من سَبْتَمْبَر 869 م، حيث وعدهُم بالحُريَّة، ونقض الرِّق، وبتحقيق العدل والمُساواة الاجتماعية، وسُرعان ما احتشدوا تحت لوائه، فأخذوا يزحفون على مُدُن العِراق الجُنوبيَّة مثل القادِسيَّة، والجعفريَّة، والمُهلَّبيَّة، إلا أن أهم مدينةٍ كان يُريدها هي البَصْرة، فجرت بينه وبين أهلِها معركة البيداء، حيث انتصر بها، وقد سُميت بهذا الاسم لكثرة ما سقط فيها من القتلى والجرحى، حيث استباحها الزُّنج، وكان قسمٌ كبير منهم كانوا من العَلَويين، حيث ألقى صاحِب الزَّنج برُؤسِهم في النَّهر، على الرُّغم من ادعائه النسب إلى عَلِيُّ بن أبي طالِب.[27][28] والواقع أن الخليفة المُهْتَدي لم يتحرَّك بشكل إيجابي لقمع ثَوْرةُ الزَّنج في مهدِها، ويُعزى ذلك أن حركة الزَّنج قد تزامنت مع نشوب فتنة العامة وفتنة الجُند في بَغْدَاد، وهُبوط الرُّوح المعنويَّة للجيش العبَّاسِيّ الذي اختُلست مرتباتهم، مما جعل أهل البَصْرة يتحملون مواجهة عُنف الزُّنج.[28]
بعد أن استقرَّت الأمور في بَغْدَاد، وجَّه الخليفة المُهْتَدي أنظارُه شطر البَصْرة، فأرسل جيشًا محدودًا لمُساعدة أهلها، إلا أنه انهزم أمام الزُّنج قرب نهر الريَّان، وقُتل قُرابة ألف وخُمسمائة من الجيش. وبعد هذا الانتصار لصاحب الزُّنج، اشتدَّ بأسُه، وخاف منه أهل البَصْرة، وتوقفوا عن حربِه، وكتبوا يطلبون نجدة الخليفة الفورية، حينها بادر بتوجيه جُعلان التُّركي، إلا أن صاحِب الزُّنج انسحب بأتباعه نحو سبخة في آخر النَّهار.[29]
كان القائد التُّركي مُوسى بنُ بُغا الكَبير أميراً على الرَّيّ، وقائداً للجيش الذي يتولَّى مُحاربة الحَسَن بنُ زَيْد العَلَويّ أمير طَبَرسْتان الثَّائر، فلمَّا بَلَغهُ خَبَر عمل صالِح بنُ وَصِيف من خلع للخليفة المُعْتَز وقَتله، ثُم مُبايعة الخليفة المُهْتَدي، ترك الثُّغر، وأقبل مِن سامَرَّاء على رأس جيش، وحينما وُرد ذلك الخبر للخليفة المُهْتَدي، بَعَث إليه كُتُباً كثيرة، طالباً مِنهُ البقاء على الثُّغر، فلم يفعل، فأرسل إليه رُسُل من بَنِي هاشِم، فلم يطِع، وكان صالِح خائفاً من عودة مُوسى، فكان يُعظِّم انصِرافهُ عن الثُّغر، وينسبهُ بذلك إلى المُعصية والخِلاف عن أمر الخليفة.[30] وقيل في رِوايةٍ أُخرى، أن الخليفةُ المُهْتَدي استَشْعَر كميَّة التدخُّلات والتعدَّيات التي يقوم بها صالِح بنُ وَصيف، ومُحَمَّد بن بُغا وغيرِهم من الأتْراك، فطَلَب إستدعاء مُوسَى بن بُغا إلى حَضْرَتِه، وذلك كي يتقوَّى بِه على مَن عندُهُ من الأتْراك، ولِتَجْتَمِع كلمةُ الخِلافَة، فاعتذر مُوسى عن اسْتِدعائه في هذا الوقت، وتحجَّج بالجِهاد في الثُّغور، ويبدو أنَّهُ أجَّل قُدومِه، وكان طلب استدعاؤه في أواخر سنة 255 هـ / أواخر 869 م.[16]
وفي صبيحة يوم الإثنين، الثَّاني عَشَر مِن مُحَرَّم 256 هـ / الرَّابِع والعُشْرُون مِن دِيسَمْبَر 869 م، جاء مُوسَى بنُ بَغا الكَبير على رأس جيشٍ هائل، ودخل مدينةُ سامَرَّاء، حيث كان صالح بن وصيف قد اختفى، وقَصَد مُوسى دار الخِلافَة، حيثُ يُقيم بِها الخليفةُ المُهْتَدي بِالله، والذي كان جالساً للعامَّة لكشفِ مظالِمَهُم، فاستأذن الدُّخول على الخَليفة مع بعض قادَتِه، ومرَّت ساعة، حتى تأخَّر الإذن عنهُم، فظنُّوا في أنْفُسِهِم، أنَّ الخليفة إنما طلبَهُ خديعةً مِنه، كي يُسلِّط عليهُم صالِح التُّركيّ، فدخلوا عليهِ هَجْماً، وجعلوا يُحادِثُونهم باللُّغة التُّركيَّة، ثُمَّ عزِموا، فأقاموا الخَليفة مِن مَجْلَسِه، ونَهَبوا كُل ما وجدوه في المَكان، ثُم أخذُوه قِسراً إلى داراً أُخرى، وبات الخليفة يقول لمُوسى بن بُغا: «ما تُريد ؟ ويحَك! اتِّق الله وخِفه فإنك ترتَكِب أمراً عظيماً»،[30] فردَّ عليهِ مُوسى: «لا بأس عليك، احلِف لي أنَّك لا تُريد لي خِلاف ما أظْهَرت»،[31] فحلَفَ لهُ المُهْتَدي، فطابت أنْفُسَهُم، وبايَعُوه بيعةً ثانية، مُشافِهة، وأخذوا عليه العُهُود والمَواثِيق، بأن لا يُمالئ أو يُؤيَّد صالحاً عليهِم، واتَّفقوا جميعَهُم على ذلِك، ويبدو أن الثِّقة في هذه الفَوْضى، وتسارُع الأحداث، صَعْبَة على الجَميع.[31] وحينما أرسلوا إلى صالِح التُّركيّ باستدعائه، ليحْضُر عِندهم، ويُطالبوه بدِماء الكتَّاب والأموال التي كانت للمُعْتَز، فوعدَهُم بذلك، وحينما أسدَل الليل، رأى أنَّ أصحابُه قد تفرّقوا عَنه، ولم يبقَ إلَّا القليل مِنهم، فآثر الهُروب والاخْتِفاء، ولم يزل مُختفياً حتى أواخر صَفَر / أوائل فَبْرايِر.[32]
في يوم الأربِعاء، السَّابِع والعِشْرُون مِن مُحَرَّم 256 هـ / الثَّامِن مِن يَنايِر 870 م، جاءت امرأة تحملُ كِتاباً، ودفعتهُ إلى كافُور الخادِم المُوكَّل بالحَرَم، وقالت لهُ إنَّ فيهِ نصيحة، وأنَّهُم إن شاءوا العُثور عليها يستطيعون إيجادها في المكان الذي وصفت لهُ إيَّاه، فأوصل الكِتاب إلى الخَليفة المُهْتَدي، وحينما تم طلبِها في ذلك المَكان، لم يُعرف لها مكان، ولم يُعرف لها خَبَر، وكان الكِتاب حسبما تعرَّف عليه الحُضور أنَّهُ كُتِب بِخَط صالِح بنُ وَصِيف، وكان يتواجد في حَضْرَة الخَليفة، الوزير سُلَيْمان بنُ وَهَب، ومُوسى بن بُغا، ومُفْلِح الخادِم، وبايكباك، وياغور، وبكالبا، وغيرهُم من رُؤوس التُّرك، فأمر الخليفة أن يُقرأ أمامِهِم، فإذا صالِح يذكُر فيه أنه مُختفي في سامَرَّاء، وذلك حرصاً على الموالي، وخوفاً من إيقاع حرب بين القَوم، وذكَر أن أخبار الكُتَّاب الذين جلدهم وقتلهم مُوجود عند الحَسَن بن مُخلَّد، وأنَّهُ أسير في سُجونِهم، وأنَّ أخبار قَبيحة جارية المُتَوكِّل موجودة عند أبي صالح بن يزداد، وصالح العطَّار.[33]
فلما فرغ سليمان بن وهب من قراءة الكتاب، حثَّ الخليفة المُهْتَدي على الصُّلح، والهُدْنة، والاتِّفاق، ويُذكرهم بقُبح الفِرقَة والتباغُض، وبسبب كلامِه، ظنَّ بعض رِجال موسى بن بُغا، أن الخليفة يعلم بمكان صالحاً، وأنَّهُ يُفضِّلهُ عليهم، وكان بينهُم كلاماً كثير ومُناظرات طويلة، وكان ذلك عِند دار موسى، فقال بعضهُم البَعْض: «اِخلعوا هذا الرَّجُل» أيَّ الخليفة المُهْتَدي، فقال أحدُهُم: «أتقتلون رجلاً صوَّاماً قوَّاماً لا يشْرَب النَّبيذ ولا يأتي الفَواحِش ؟ والله إن هذا ليس كغيرِهِ مِن الخلفاء، ولا يُطاوِعَكُم النَّاسُ عليه»، فبلغَ الخَبَر الخليفة المهتدي، فخَرَج إلى النَّاس في قاعَتِه وهُو مُتَقلِّداً سيفاً، وكان قد تطيَّب ولبس ثياباً نظيفة، وجَلَس على سَرير الخِلافَة، واستدعى مُوسى بن بُغا وأصحابُه، فرفضوا في البداية، إلا أنَّهُم لم يجدوا بداً من الأمر،[31] وقال لهُم الخَليفة:
إِنَّه قد بَلغَنِي مَا أَنتُم عليْه مِن أَمرِي، ولسْتُ كمن تقدمني مِثْل أَحمَد بْن مُحمَّد المسْتعين ولَا مثل اِبْن قَبِيحَة، وَاَللَّه مَا خَرجَت إِليْكم إِلَّا وَأنَا مُتَحنط، وقد أُوصِيت إِلى أَخِي بِولديْ، وَهذَا سَيفِي، وَاَللَّه لِأضْرِبن بِهِ مَا اِسْتمْسك قَائِمة بِيَدي، وَاَللَّه لِأن سقط مِن شَعْرِي شَعرَة لِيهْلِكن أو لِيذْهَبْن بِهَا أكْثرَكم، أمَا دِين ؟ أمَا حَيَاء ؟ أُمًّا رِعَة ؟ كم يَكُون هذَا الخلَاف على الخُلَفاء والْإقْدام والْجُرأة على اَللَّه؟ سَوَاء عليْكم مِن قَصْد الإبْقاء عليْكم، ومن كان إِذَا بَلغَه مَثل هذَا عَنكُم دعَا بِأرْطَال الشَّرَاب، فَشَربهَا سُرورًا بِمكْروهكم، وَحُبا لِبواركم، خَبرُوني عَنكُم، هل تعْلمون أَنَّه وصل إِلى مِن دُنْياكم هَذِه شَيْء، أُمًّا إِنَّك تَعلَّم يَا بايْكباك أنَّ بَعْض المتَّصلين بِك، أَيسَر مِن جَماعَة إِخوَتي وَولَدِي ؟ وَإِن أَحبَبت أن تَعرِف ذَلِك، فانْظر هل ترى فِي منازلهم فرْشًا أو وَصائِف، أو خدمًا، أو جِواري، أَولُهم ضَيَاع، أو غَلَّات ؟ سَوأَة لَكم! ثُمَّ تقولون إِنِّي أَعلَم عِلْم صَالِح وهل صَالِح إِلَّا رَجُل مِن الموالي ؟ وكواحد مِنْكم، فكيْف الإقامة معهُ إِذا ساء رأْيكم فِيه، فَإِن آثرْتم الصُّلْح كان ذَلِك مَا أَهوَى لِجمْعِكم، وَإِن أبيْتم إِلَّا الإقامة على مَا أَنتُم عليْه، فَشأنِكم، فاطْلبوا صالحًا ثُمَّ أبْلغوا شِفَاء أَنفسِكم وَأمَّا أنَا فمًا أَعلَم عِلْمه.[32]
وبَعْد خِطابه، قالوا: «فاحلف لنا على ذلك»، قال: «أما اليَمين فإني أبذلها لكم، ولكني أؤُخرها حتى تكون بحضرة الهاشِميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غداً إذا صليت الجُمُعة»، فهدأت أنفسُهُم قليلاً، وقد صلَّى المُهْتَدي بالنَّاس وانصرفوا هادئين دون أثر حول الأمر.[34]
في يَوْم السَّبْت، الثَّلاثين مِن مُحَرَّم 256 هـ / الحَادي عَشَر مِن يَنايِر 870 م، راجَ عِند العامَّة مِن النَّاس، أن التُّرك أوشكوا على خَلْع الخَليفة المُهْتَدي، ويفتكُوا بِه، وأنَّهُم أرهقوه في مطالِبهُم، وكَتبوا الرَّقاع أو الرَّسائل، وألقوها في المَسْجَد والطُرُقات، وذَكَر المُؤرِّخ الطَّبَريّ رُقعة، كان نصُّها:
بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم، يا معشَر المُسلمين، ادعوا الله لخليفَتُكُم العَدِل الرَّضي المُضاهي لعُمر بن الخَطَّاب، أن ينصرهُ على عدوِّه، ويكفيه مُؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسُه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مُخلَّد، رحم الله من أخلص النيَّة ودعا وصلَّى على مُحَمَّد صلَّ الله عليه وسلَّم.[34]
وفي يوم الأرْبِعاء، الرَّابِع مِن صَفَر / الخامِس عَشَر مِن يَناير، تحرَّك المُناصرين للخليفة المُهْتَدي مِن عامَّة النَّاس، وتحديداً من مَنطَقتي الكَرَخ والدُّور، وبعثوا برسالة إلى الخليفة أن يُرسِل إليهم بعض إخوته ليحمِّلوه رِسالة، فوجَّه إليهم أخاه أبا القاسِم عَبدُ الله بن هارُون الواثِق، فذكروا لهُ أنَّهُم سامِعون مُطيعون لأمير المُؤمِنين، وأنَّهُم بلغَهُم أنَّ مُوسى بن بُغا وأصحابُه، يُريدون خلعِه، وأنَّهُم -أي المُناصِرين- سيُقدِّمون دِماؤُهم دُون ذلك،[34] كما شكوا تأخُّر أرزاقِهِم، وزيادة الضَّرائب والرُّسوم، فكتبوا كِتاباً مُوجَّهاً للخليفة، وكان الكاتِبُ هو مُحَمَّد بن ثُقَيْف الأسْوَد، وكان يبلغُ عدد المُناصِرين مائة وخَمسُون فارِساً، وخُمْسُمائة رجُل، ووجهوه إلى عبد الله بن هارُون، فحملهُ إلى أخيه الخليفةُ المُهْتَدي، فقرأهُ، ثُم كَتَب جَوابُهُ بخَطِّه، وخَتَمَهُ بِخَتْمِه، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليا وحافظا، فهمت كتابكم وسرني ما ذكرتم من طاعتكم، وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم، فأما ما ذكرتم من خالاتكم وحاجتكم فعزيز على ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بأن لا آكل ولا أطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا يسع شئ دونه، ولا ألبس أحدا من ولدى إلا ما ستر العورة، ولا والله حاطكم الله ما صار إليَّ منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمى إلا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد، ويرد كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم، وأما ما ذكرتم مما بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهلُ ذلك، وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة، فجزاكم الله عن أنفسكم، وعهودكم، وأمانتكم خيراً، وليس الأمر كما بلغكم، فعلى ذلك فليكن عملكم إن شاء الله، وأما ما ذكرتم من الاقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا انظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله، والسلام عليكم، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظاً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيراً.[34]
فلما فُرغ مِن قِراءة الكِتاب، وقال النَّاس ما قالوا، فأشار أبو القاسِم عَبدُ الله بن الواثِق، أن اكتبُوا كِتاباً إلى الخليفة، فكتبوا إليه، أن تعُود أمور السياسة والخِلافَة إلى أمير المُؤمِنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه مُعترض، وأن يُعيد الضرائب والرسوم التي كانت تُؤخذ في عهد المُسْتَعين بِالله، وغيره من المَطالِب، مثل مُحاسبة مُوسى بن بُغا، وصالح بن وصيف عمَّا لديهِم من أموال،[35] وذكروا أنهم سيبقون عِند باب أمير المُؤمِنين، حتى يقضي حوائجُهُم، وتعهَّدوا بأنه لو تعرَّض للخليفة أحداً ما، سيأخذون برأسِه، وإن سقط شعرة من رأس الخليفة، سيقتلون مُوسى بن بُغا وبايكباك ومُفلح وغيرهم.[36]
وقد أمر الخَليفة المُهْتَدي بإجابة مطالبِهم، وسيَّرها مع أخيه أبي القاسم، كما كَتَب لهُم مُوسى بن بُغا وأن صالِح بن وصيف لهُ الأمان بظهُورِه، وذكَّر أنهُ أخوه وابن عمَّه، فلما قرأ وُجهاء بَغْدَاد كتاب الخَليفة ومُوسى بن بُغا، أكدوا أنهم سيبدون رأيهم في اليوم التالي.[35]
وفي اليوم التالي، أيّ في الخامِس مِن صَفَر 256 هـ / السَّادِس عَشَر مِن يَنايِر 870 م، خرج مُوسى بن بُغا مِن دار الخليفة، ومعهُ زهاء ألف وخُمْسُمائة رجُل، فوقف على طريقهم، وأتاهم أخو الخَليفة أبي القاسِم، فلم يعقَل مِنهم جواباً شافياً، وأخذ النَّاس يقولون ما يختلفُ بهِ غيرَهُم، فلمَّا طال الكلام، غادر أبو القاسِم، واجتاز بموسى بن بُغا بين جيشِه، فانصرف معه.[35] ثُم أمر المُهْتَدي بِالله مُحَمَّد بن بُغا أن يسير إليهم مع أخيه أبي القاسِم، فسار في خُمْسُمائة فارِس، وتقدم مع أبي القاسم ووعدوهم عن المُهْتَدي بأن أعطوهم توقيعاً فيهِ أمان لصالِح بنُ وَصِيف، إلا أن وجوه بَغْدَاد طلبوا أن يكُون مُوسى في مَرتبة أبيه بُغا الكَبير، وأن يكون مَنزِلة صالِح في مَرتبة أبيه وَصِيف، ويُوضع لهُم العَطاء، ثم اختلفوا، فرضيت جَماعة، ورفَضَتهُ جَماعة.[37]
وفي اليوم الآخر، أيّ في السَّادِس مِن صَفَر 256 هـ / السَّابِع عَشَر مِن يَنايِر 870 م، ركَبَ بنُو وَصِيف التُّركي، ونادوا بإشهار السُّيوف، فنهبوا دوابَّ العامَّة مِن النَّاس، وتحصَّنوا في مدينة سامرَّاء، واحتجزوا بأبي القاسم أخو الخليفة، فبلغ ذلك الخليفة المُهْتَدي، فقال لمُوسى: «يطلبون صالحاً مِني كأني أنا أخفيتُه! إن كان عِندهم فينبغي لهُم أن يظهَروُه»، ثُمَّ تحرَّك مُوسى مع قُوَّادِه، على رأس أربَعةِ آلاف فارِس، وعسكروا، وتفرَّق الأتراك ومَن معهُم، ولم يكُن لأهل الكَرَخ، ولا لأهل الدُّور حَركَة في هذا اليوم، وجدَّ مُوسى في طلب صالِح، واتَّهموا جماعة بإخفائه، فلم يكُن عِندهم، ويُروى أن غُلاماً دخل داراً وطلب ماء ليشربُه، فسمع قائلاً يقول: «أيُّها الأمير تنحّ، فإن غُلاماً يطلُب ماء»، فتوجَّه نحو عياراً فأخبرهُ بذلك، فأخذ معهُ ثلاثة أشخاص وجاؤوا إلى صالِح بنُ وصيف، وكان بيدهِ مِرآة ومِشط، وهو يُسرّح لحيَتُه، فأخذ صالحاً وهو يتضرَّع إليه، فقال لهُ: «لا يُمكنني تركك، ولكني أمر بك على ديار أهلك وقُوَّادِك وأصحابك، فإن اعترضك مِنهم اثنان أطلقتُك»، فأخرجهُ حافياً ليس على رأسِهِ شيء، والعامَّة تمشي مِن خلفِه وتراه، راكباً على بَرَذُون، فأتوا به إلى قصْر الجَوْسَق، فضربهُ بعض أصحاب مُوسى على عاتِقِه، ثُم قتلوه وحزُّوا رأسُه، وتركوا جُثمانُه، ودخلوا إلى دار الخَليفة المُهْتَدي، فقالوا لهُ في ذلك ما قالوا، فأمر بدفنه قائلًا: «واروه»، ثم جاؤوا وحملوا رأس وصيفًا، وطيف به على قناة، ونادى المُنادي منهم: «هذا جزاء من قتل مولاه -أيّ المُعْتَز بالله-».[38]
بسبب نفاد خزينة الدَّولة نتيجة الصّراعات الداخليَّة وعزل وقتل الخُلفاء السَّابِقين على يد الأتراك، هاجوا العَسكَر التُّرك في الكَرَخ والدُّور، حيث تحرَّكوا في الأوَّل مِن رَجَب 256 هـ / الثَّالِث مِن يُونيو 870 م، طلباً لأرزاقِهِم ومعاشاتِهم، فوجَّه الخليفة المُهْتَدي أخاهُ أبو القاسم ومعهُ القائد التُّركي كيغْلَغ وغيرهما، ففاوضُوهم وهدأوهم، إلا أن هُنالك خَبَر بَلَغ مُحَمَّد بنُ بُغا أن المُهْتَدي قال للأتراك أنَّ الأموال مُوجودة عِند مُحَمَّد بن بُغا وأخيه مُوسى، فهرب إلى أخيه مُوسى، فكتب المُهْتَدي إليه أربعة كُتُب مُعطياً إيَّاه الأمان، فرجع مع أخيه حبشون بن بُغا، فحبسهُما الخليفة المُهْتَدي، ومعهما كَيْغَلغ، لفسادِهِما، وطالبَهُم بالأموال، فقُبض مِن وكيلِه خَمسةَ عشر ألف دِينار، وقُتِل في الثَّالِث مِن رَجَب 256 هـ / الخامِس مِن يُونيو 870 م،[39] وكَتَب المُهْتَدي إلى مُوسَى بن بُغا حين حَبَس أخاه، أن يُسلم العسكر إلى القائد بابَكْيال، ويرجع إليه مِن مُحاربة الخارجيّ مُساوِر الشَّاري، وأرسل كِتاباً إلى بابَكْيال يُطالبِهُ فيه بقتل مُوسى ومعهُ مُفلِح، ولكنَّ بابَكْيال، وهو تُركي، سار إلى مُوسى، فقرأ عليهِ كِتاب المُهْتَدي، وقال: «لستُ أفرح بهذا، فإنه تدبير علينا جميعنا -أي الأتراك- فما ترى ؟»، فقال لهُ مُوسى: «أرى أن تسير إلى سامَرَّاء، وتُخبرهُ أنك في طاعتِه ونصُرَتِه عليّ وعلى مُفلح، فهو يطمئنُّ إليك، ثُمَّ تدبَّر في قَتلِه»،[39] ويُوضِّح المُؤرِّخ اِبن كَثير أن المُهْتَدي أراد بذلك أن يُخالف بين الأتراك وإضْعاف شَوكَتِهم.[40]
في يوم الجُمْعة، الثَّاني عَشَر مِن رَجَب 256 هـ / الرَّابِع عَشَر مِن يُونيو 870 م، أقبَلَ بابَكْيال ومعهُ مِن القُوَّاد التُرك ياركُوج، وأسارتكين، وسِيما الطَّويل، وغيرهِم، إلى مدينة سامَرَّاء، فدخلوا دار الخِلافَة، ولم يكونوا على عِلم بما سيجري، وكان في الدّار الأمراء والسَّادة من بَني هاشِم، فأمر الخليفة المُهْتَدي باعتِقال بابَكْيال، لكونِه لم يقتُل مُوسى ومعهُ مُفلحاً،[41] وتركَ البقيَّة يخرجون آمِنين، فاجتمعوا وقالوا: «لِمَ حُبس قائدنا ؟ ولِمَ قُتل أبو نَصْر -أي مُحَمَّد بن بُغا- ؟».[39][40] وقرروا أن يُحيطوا بقَصْر الجَوسَق،[41] وكان صالِح بنُ عليّ بن يعقُوب بن المَنْصُور العَبَّاسي حاضراً عِند الخليفة المُهْتَدي حينذاك، وكان قد شاوَرهُ في أمرِهم، فقال لهُ صالِح بنُ عليّ: «إنَّهُ لم يَبلغُ أحدٌ من آبائكَ ما بلغتَهُ مِن الشَّجاعة، وقد كان أبُو مُسْلِم أعظمُ شأناً عِند أهلِ خُراسان مِن هذا عِند أصحابِه، وقد كان فيهُم مَن يعبدُه، فما كان إلا أن طُرح رأسُه حتى سكتوا، فلو فعلتَ مِثل ذلك سكتوا»، فأمر المُهْتَدِي آنذاك بضرب عُنق بابَكْيال،[40] وكان بابَكْيال قد نَهَب وأفسَد في الرَّعية خِلال فترة نُفوذه، وشكا النَّاس إلى الخَليفة أمرُه، فوجَّههُ بالكفّ عن ذلك، فلم يقبل، ويُروى أن الخليفة المُهْتَدي قال على لِسانِه: «أريد قلع هؤلاء الأتراك وتطهير الدُنيا مِنهُم» في إشارة إلى تعاظُم نُفوذِهم وفسَادِهم مُنذ أيَّام المُعْتَصِم بِالله وحتَّى تسبَّبُهم في فَوْضَى سامَرَّاء.[42]
في يوم السَّبت، الثَّالِث عَشَر مِن رَجَب / الخامِس عَشَر مِن يُونيو، أيّ في اليوم التالي من اعتقال وقَتْل بابَكْيال، جهَّز المُهْتَدي بِالله جمعاً مِن المَغارِبة، والأتراك، والفراغِنة، وقادَهُم بِنفسِه، فوضعَ في المَيمنة مَسْرُور البَلَخي، وفي المَيسرة ياركُوج، ووقف في القلب مع أسارتكين وطبايغوا، وهُم كانوا يُدينون بالولاء لبابَكْيال، وكان جَمَع الأتراك يُطالب بإخراج بابَكْيال مِن أمام قَصْر الجَوْسَق[43]، وأمر الخليفة المُهْتَدي بإلقاء رأسِهِ إليهم مِن خلال عَتَّاب بنُ عتَّاب، فرمى رأسُه إليهم، فجاشوا، وكرهوا عَتَّاب، وقتلُوه، وحصلت خيانة كَبيرة نتيجة خطأ المُهْتَدي اعتقادُه أنهم سيُطيعونه، فقد عطفت المَيْمَنة بقيادة مَسْرُور البَلَخي وميسَرتِه بقيادة ياركُوج بمن فيها من الأتراك، وانقلبوا على الخَليفة واتجهوا للقِتال مع بقيَّة إخوانهم الأتراك،[40] وفي اليوم التَّالي، أي يوم الأحد، اقتتل الأتراك وكان عددهم قد وصل عشرةِ آلاف،[43] ضد المَغارِبة، والفراغِنة قِتالاً شديداً، وقُتل جماعة من الفريقين، حتَّى قُتل من الأتراك نحو أربعة آلاف.[40][44] إلا أن قُوات الخليفة المُهْتَدي انهَزَمت، وكان الخَليفة ما يزالُ حاملاً للسيف، والمُصحف في عُنُقه، مع صالِح بنُ علي العبَّاسي، وكان يركُض في شارعٍ عام مِن سامَرَّاء ويُنادي: «يا مَعشر المُسلِمين! أنا أميرُ المُؤمِنين، قاتِلوا عن خليفَتكُم»، فلم يُجبه أحد من العامَّة، فسار إلى باب السَّجن، فأطلق من فيه وهو يظنُّ أنهم سيُعينونه، فهربوا ولم يُعنهُ أحد.[39]
بعد انهِزام قُوات المُهْتَدي، واستنجاده قيام النَّاس وحتى المسجُونين ليدافعوا عنه دون جدوى، سار المُهْتَدي إلى دار صاحب الشُرطة أحمَد بن جَميل، فدخلها وكان الأتراك يُلاحِقونه، فوضع سِلاحُه، ولبس زياً أبيضاً، وكان يعلوا داراً وينزل أخرى، وكان أحمد بن خاقان التُّركي يمضي على رأس ثلاثينَ فارِساً، يسأل عن المُهْتَدي، حتى علِم بأنه في دار ابن جَميل، وكان المُهْتَدي قد بادر في صُعود الحائط ليلُوذ بالدار الأخرى، لكنَّهُ رُمي بسَهْم، وبُعج بالسَّيف، ثم حمله ابن خاقان على دابَّة، وجاء بِهِ إلى قَصْر الجَوْسَق، فجعل الأتراك يضربونه، ويُشتمونه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع، وأقرَّ لهُم أو جعلوه يُقر لهم بسُتمائة ألف كان قد أودعه بالقُوَّة، وأمرُوه أن يخلع نفسُه من الخِلافَة على غِرار سَلَفِه المُعْتَز، لكنَّهُ رَفَض، واستسلم للقتل، فقاموا بدوس خُصيتيه، وضربُوه بقوَّة، وخلعوا أصابع يديه وقدميه مِن كَعبيه، حتَّى قُتِل من أثر التعذيب الذي تعرَّض له،[45] وكان قد قُتل في يَوم الخَميس، الثَّامِن عَشَر مِن رَجَب 256 هـ / الثاني والعُشْرُون من يُونيو 870 م، وأشهدوا على موتِه أنَّهُ سَليم ليس بهِ أثر، وصلَّى عليهِ جَعْفَر بن عبد الواحِد،[40] ثُمَّ دُفن في مقبرة المُنْتَصِر.[39]
بعد استِلام الخليفة المُهْتَدي بالله للخِلافة، أقر جَعْفَر بن مُحَمَّد الإسكافي على الوِزارة، حيث عُين وزيراً في فترة خِلافة المُعْتَز بِالله، ورُغم أنَّهُ كان قليل العِلم والأدب، إلا أنَّهُ كان يستميل النَّاس بالهدايا والعطايا، فاستمر على وِزارته أشهُر قليلة، ثُمَّ عزلهُ الخليفة، وعيَّن بدلاً منه، أبو صالِح جَعْفَر بنُ أحمد بنُ عمَّار، ثم آخِرهُم سُليمان بن وَهَب، وكان أحد العُقلاء، من ذوي الرأي، وهو سليل عائلة عملت في بِلاط الخِلافة منذ العَهْد الأُمَويّ المُبكر حتَّى زمَن أبيه وَهَب والذي كان في خِدمة جَعْفَر البَرمَكي، وكان سُليمان كاتباً للخليفة عَبدُ الله المأمُون حينما كان في الرَّابِعةَ عَشَر مِن عُمرِه حتى وفاتِه، فاستمرَّ على وِزارتِه، حتى خُلع الخليفة المُهْتَدي.[46]
كان الخليفة المُهْتَدي بالله يُشرف بنفسِه على الحُكم في أمور النَّاس، واتُّفق أنه سمع يوماً، وهو بأعلى قَصْر الجَوْسَق يُشرف على رُؤية النَّاس وهُم لا يرونُه، أن رجلاً قال لرجُل: «نصبت ميزاب سطحِك في مُلكي ؟ بيني وبينك أمير المؤمنين!»، فسجد وبَكَى، ثُم رَفَع رأسُه وقال: «الحَمدُ لله الذي أراني الدُّنيا هكذا، وهذا والله قد طيَّب عليّ المَوت»، وكان ذلك دلالة من دلالات على أنَّهُ كان يحكُم بالعَدل ويُعرف بِه، ولا يرضى بالظَّلم.[3]
وقال نَفْطُويه: «حدثني بعض الهاشِميين، أنهُ وجد للمُهْتَدي سفط فيهِ جبة صُوف، وكساء كان يلبِسهُ بالليل ويُصلي فيه، وكان قد اطَّرح الملاهي وحرَّم الغِناء، وحسَم أصحاب السُلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلسُ بنفسه، ويُجلسُ الكُتَّاب بين يديه، فيعملون الحساب، وكان لا يخل بالجلوس الاثنين والخَميس، وضرب جماعة من الرؤساء، ونفى جَعْفَر بنُ مَحمُود إلى بَغْدَاد، وكره مكانُه، لأنه نُسب عِنده إلى الرَّفض».[4]
ومِما يُروى مِن عدلِه، فقد تظلَّم رجُلاً من الرُّملة في فِلَسْطين إلى أمير المُؤمِنين المُهْتَدي مِن عامل المدينة، فأمر بإنصافِه وكتب لهُ كِتاب إليه، فأخذهُ المُهْتَدي ووقَّع أسطُراً بخطّه وختمِه بيده، وسلَّمُه إلى الرَّجُل وهو يدعو له، وحينما رأى هذا الرجُل من المجلس أشياء لم يَعهْدها، وشاهد رحمة المُهْتَدي وبُرُّه بالرَّعية وتولية أمورهم بِنفسِه، سَقَط مُغشيَّاً عليه، فنهض المُهْتَدي يُعاينهُ بِنفسِه، فلما أفاق، قال لهُ: «ما شأنك ؟ أبقيت لك حاجة ؟» فردَّ الرَّجُل: «لا والله، ولكني ما رجوتُ أن أعيش حتى أرى هذا العدل»، قال لهُ المُهْتَدي: «كم لزمك -أي كم تكلَّفت- مُنذُ خرجت من بلدك ؟» فقال: «أنفقت عشرين ديناراً»، فقال المُهْتَدي: «إنا لله! كان الواجِب علينا أن نُنْصِفك، وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكُلفة، وإذ لم يتَّفق ذلك، فهذه خمسون دينار مِن بيت مال المُسلِمين، فإني لا أملك مالاً، فخُذها لنفَقَتِك، قادماً، وراجعاً، واجعلنا في حل من تَعَبِك وتأخُّر حقَّك»، فبكَى الرَّجُل حتى غُشي عليه ثانيةً وأجهش بعض الحاضرين بالبُكاء، وبَهَت آخرُون من المَوقِف،[30] فأنشد أحدُ الحاضِرين شِعراً نسبهُ الأعْشَى:
فردَّ المُهْتَدي عليه: «أما أنت، فأحسن الله جَزاءَك، وأما أنا فما رُويت هذا الشِّعر ولا سَمِعتُ بِه، ولكني أذكُر قول الله عزَّ وجل: ونضعُ المَوازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلِمُ نفسٌ شيئاً، وإن كان مِثقال حبَّة من خَردَل أتينا بها وكفى بنا حاسبين»، فما بقي مِن المجلس إلا استغرَق في الدُّعاء والبُكاء، ودعوا لهُ بطُول العُمر ونَفاذ الأمر.[3]
كان مُحَمَّد المُهْتَدي أكبر أبناء الخليفة هارُون الواثِق بالله، وقد توفي أباه حين كان صغيرًا، كما كان لديهِ إخوة وهُم: عَلِي، وإبراهيم، ومُحَمَّد الأصغر، وعبدُ الله.[47]
أنجب المُهْتَدي عددًا من الأبناءِ والبنات، عُرف منهم تِسعة ذُكورٍ، وهُم:[48]
كان المُهْتَدي واسِع الجُبهة، أسمراً، رقيقاً، أشْهَل، جَهْم الوَجه، حسِن العَينين، عريض البَطن، عريض المَنكبين، قصيراً، طويل اللَّحية وحسِنة المَنظر.[40][45]
كان الخليفة المُهْتَدي بِالله زاهِداً، صوَّاماً قواماً، لم تُعرف لهُ زَلَّة، مُتعبداً، وحسِن الخُلُق، عفيف النَّفس،[45] وقيل أن المُهْتَدي كان قد بدأ الصَّوم مُنذ أن ولي الخِلافَة، حتَّى استُشهِد، وكان يُحب الاقتداء وسلك طريق الخليفة الأموي الزَّاهِد عُمر بن عبد العَزيز في أيَّام خِلافَتِه.[40] كان سَهل المَعشر، كريم الطَّبع، يُخاطب أصحاب الحوائج بِنفْسِه، وكان يلبِس الصُّوف الخَشِن تحت ثيابِه على جِلدِه، وكان يقول: «لو لم يكُن الزُّهد في الدُّنيا والإيثار لِما عِند الله من طبعي، لتكلَّفتُه وتصنَّعتُه، فإن منصبي يقتضيه، فإني خليفةُ الله في أرضِه، والقائم مقام رَسولِه، النَّائب عنهُ في أمَّتِه، وإني لأستحي أن يكون لبني مُروان عُمر بن عَبد العزيز، وليس لبني العَبَّاس مثلِه، وهُم آل الرَّسولِ صلَّ الله عليه وسلَّم، وبهِ ألزم وإليه أقرب».[3] وروى الخطيبُ البَغْدادِيُّ مما يُروى في زُهدِه وتقشُّفِه، أن أحد أصحاب المُهْتَدي جاء إليه لتناول معهُ طعام الإفطار في شهر رَمَضان، وكان الطعام قطعًا قليلة من الخُبز وبجانبها آنية فيها مِلحٌ وخلٌّ وزيت، ولكن صاحبهُ تأخر في البدء في الأكل ظنًا منه أنه سيُؤتى بطعامٍ آخر، ففَهِم المُهْتَدي تحيُّرُه فقال له: «كُل، فليس ها هُنا من الطَّعامِ غير ما ترى»، فتعجَّب صاحِبهُ وحاول ثنيه عن إفراطِه في التقشُّف حيث أخذ يُذكره بما أسبغ الله عليه من النِّعم، فردَّ عليه ردًا بليغًا أبان فيه فصاحتِهِ، وحِكمته في تقديره للأمُور، فقال: «إن الأمر لعلى ما وصفت فالحمدُ لله، ولكني فكرت في أنه كان في بني أميَّة عُمر بن عبد العزيز، وكان من التقلُّلِ والتقشُّفِ على ما بلغك، فغِرتُ على بني هاشِم ألا يكون في خُلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأيت».[49]
كان المُهْتَدي بِالله من صالح بَنِي العَبَّاس، يُحب العدل، وينبُذ الظُّلم، وقد بنى قبَّة لها أربعة أبواب، وسمَّاها قبة المظالم، وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، يأمر بالمعرُوف، وينهى عن المُنكر، وحرَّم الشَّراب، ونهى عن القيان، وكان يحضُر كُل جُمْعة إلى المَسجد الجامِع، فيُؤم بالنَّاس، إلا أن الدَّولة كانت في مرحلة لا يُمكن إصلاحها مِثل الخَليفة المُهْتَدي في صلاحِه، وكثرة عِبادَتِه.[50]
روى المُهْتَدي بالله حديثًا واحِدًا فيما عُرف، وذلك عن عليّ بن أبي هاشم بن طبراخ، عن مُحَمَّد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى، عن داوُد بنُ علي عن أبيه، عن عبد الله بن العَبَّاس قال: «قال العباس: يا رسُول الله ما لنا في هذا الأمر؟ قال: لي النّبُوَّة، ولكُم الخِلافَة، بِكُم يُفتح هذا الأمر، وبِكُم يُختَم، وقال للعبَّاس: مَن أحبَّك نالتهُ شفاعتي، ومن أبغَضَك لا نالتهُ شفاعتي»، ضعَّفهُ الوادِعيّ.[40]
كان الخليفة المُهْتَدي بالله من أروع خُلفاء بَني العَبَّاس، وحاز على محبَّة كُل من عاصرُه من العُلماء والأُدباء، فلم يُقال عنه إلا المديح والثَّناء سواءٍ لشخصِه، أو لحُكمِه وشجاعته في مُواجهة النُّفوذ التُّركي الذي استولى على الخِلافَة العَبَّاسِيَّة، فعاصر فترة عصيبة جدًا على البِلاد، عُرفت آنذاك بفَتْرة سَامَرَّاء، ولم يكُن مُتوقع منه فعل الكثير في وضعٍ استفحَل في شؤون الخِلافَة، وعجِز بعض أسلافِه من الخُلفاء عن مُواجهته بعدما جَلب المُعْتَصِم بالله الأتراك كي يكوُّنوا جبهة واسِعة في الجيش العَبَّاسِيّ الإسلامِيّ، وقد قال عنهُ بعض العُلماء ما يُوضح عمَّا كان بِه المُهْتَدي بالله:
Seamless Wikipedia browsing. On steroids.
Every time you click a link to Wikipedia, Wiktionary or Wikiquote in your browser's search results, it will show the modern Wikiwand interface.
Wikiwand extension is a five stars, simple, with minimum permission required to keep your browsing private, safe and transparent.