«إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟»–صحيح مسلم
فجعل رسول الله من أسباب الإجابة رفع اليدين، ومن أسباب المنع وعدم الإجابة أكل الحرام والتغذي بالحرام.[5]
الأصل هو رفع اليدين حال الدعاء مطلقاً؛ وذلك إظهاراً للذل والانكسار، والفقر إلى الله سبحانه، وتضرعاً واستجداءً لنواله، وهو من آداب الدعاء المتفق عليها، وأسباب إجابته؛ لما فيه من إظهار صدق اللجوء إلى الله عز وجل والافتقار إليه.
قال العلامة ابن رجب الحنبلي:
«هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة...." قال: "الثالث: مد يديه إلى السماء، وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته.»–ابن رجب الحنبلي
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاة الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، ورفع يديه يوم بدر يستنصر على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة رفع يديه في الدعاء أنواع متعددة.
«قال ابن حجر: اللائق بالطلب لشيء يناله أن يمد كفه إلى المطلوب، ويبسطها متضرعا ليملأها من عطائه الكثير المؤذن به رفع اليدين إليه جميعا»–ابن رجب الحنبلي
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية في «الفتاوى الكبرى»:
«ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين»–الفتاوى الكبرى
وقال أيضا:
«وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة»–الفتاوى الكبرى
وقد بوب البخاري في صحيحه أيضاً لهذه المسألة فقال: «باب رفع الأيدي في الدعاء»، وأشار ضمن هذا الباب العديد من الأحاديث.
«قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن، وهي أكثر من أن تحصى. وقال: وقد جمعت منها نحواً من ثلاثين حديثاً من "الصحيحين"»–شرح مسلم
رفع الكفين
يتم رفع اليدين في الدعاء من خلال جمع الكفين أمام الوجه عند النطق بصيغة الدعاء، وتحصل السنة برفعهما سواء أكانتا متفرقتين أم ملتصقتين، وسواء أكانت الأصابع والراحة مستويتين أم الأصابع أعلى منها، والضابط أن يجعل بطونها إلى السماء وظهورها إلى الأرض.[6]
ويمكن التفريق بين اليدين أو جمعهما قرب الوجه أو بعيدا عنه إلى غاية إنهاء الدعاء ثم مسح كامل الوجه بالراحتين.
كما يمكن تقبيل اليدين بعد إنهاء الدعاء قبل مسح ما أمكن من الجسم بهما كما ورد في السنة النبوية الصحيحة.[7]
«عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.»–صحيح البخاري
كما يمكن رفع اليدين مع الساعدين والذراعين إلى السماء حتى إظهار الإبطين، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.[8]
«عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظنّ أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات»–صحيح مسلم: الحديث 974
وإذا كانت السماء هي قبلة الدعاء، فإنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- استقبال القبلة مع مد يديه وذراعيه إلى السماء.[9]
ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صفة الدعاء أنه كان يرفع أصبعا واحدا هو سبابة اليد اليمنى في الدعاء.[10]
«حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زائدة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة فقال عمارة قبح الله هاتين اليدين. قال زائدة قال حصين حدثني عمارة قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة التي تلي الإبهام»–عون المعبود على سنن أبي داود: الحديث 1104
كما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن رفع أصبعين أثناء الدعاء، أي سبابتي اليد اليمنى واليد اليسرى.[11]
«عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يدعو بأصبعيه جميعا فنهاه وقال بإحداهما باليمنى»–صحيح ابن حبان
فإذا ما تعذر استعمال السبابة اليمنى، وهو الأفضل، فلا بأس برفع سبابة اليد اليسرى أثناء الدعاء[12]·.[13]
«عن سعد بن أبي وقاص قالَ: مَرَّ عليَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا أدعو بأُصبُعيَّ، فقالَ: أحِّدْ أحِّدْ وأشارَ بالسَّبَّابةِ»–سنن أبي داود: الحديث 1499
وتم التأكيد على رفع أصبع واحد في حديث آخر للرسول -صلى الله عليه وسلم- رواه أبو هريرة.[14]
«عن أبي هريرة: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأى رَجُلًا يَدعو هكذا بإصبَعَيْهِ يُشيرُ، فقال: أَحِّدْ أَحِّدْ»–سنن النسائي
ولا يُستحب تحريك السبابة أثناء رفعها في الدعاء لما ورد عن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبد الله بن الزبير.[15]
«قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء»–الإمام النووي
وهذه مسألة اختلاف فهم العلماء للحديث الذي أخرجه مسلم في صفة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وأنه جعل ظهورهما نحو السماء، فقال جماعة من أهل العلم: إن الدعاء إذا كان لجلب نعمة، فالمشروع أن يكون ببطون الأكف، وإذا كان لدفع نقمة، فالمشروع أن يكون بظهور الأكف، جمعاً بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وبين نهيه عن السؤال بظهور الأكف.[19][20]
فاتباع السنة النبوية في المواطن التي لم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم يديه أمر مطلوب؛ لأن فعله حجة وتركه حجة، وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس، كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه، فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به صلى الله عليه وسلم.[23]
أما المواضع التي رفع صلى الله عليه وسلم فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك من أسباب الإجابة، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم.[24]
وقد روت أم المؤمنينعائشة -رضي الله عنها- حادثة رفعه يديه في الدعاء والاسغفار لموتى المسلمين أثناء زيارته مقبرة البقيع في المدينة المنورة، حيث رفع يديه الشريفتين مع الساعدين والذراعين إلى السماء حتى إظهار الإبطين.[26]
«عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظنّ أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات»–صحيح مسلم: الحديث 974
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتفي برفع السبابة أثناء الدعاء على المنبر أثناء خطبة الجمعة ولم يكن يرفع يديه مجتمعتين[32]·.[33]
«عن سهل بن سعد –رضي الله عنه– قال: ما رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم– شاهراً (رافعا) يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا (وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى والإبهام)»–سنن أبي داود: الحديث 1105
«عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن رجلاً رفع يديه بالدعاء قبل أن ينتهي من صلاته، فلما فرغ قال له عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه بالدعاء إلا بعد أن يفرغ من صلاته»–معجم الطبراني الكبير
لكن عموم الأحاديث النبوية الدالة على أن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء يقتضي أنه لا مانع من رفعها، فإذا صلى ورفع يديه يطلب المغفرة ويطلب حاجته فلا بأس بذلك.[35]
«عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد بسط كفيه في دبر كل صلاة ثم يقول: "اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر، وتعصمني في ديني فإني مبتلى، وتنالني برحمتك فإني مذنب، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن،" إلا كان حقاً على الله عز وجل أن لا يرد يديه خائبتين )»–ابن السني: عمل اليوم والليلة
وبما أن أحاديث الترغيب في فضائل وأعمال البر والخير، ولو كانت ضعيفة، أولى بالتطبيق والإعمال، فإن رفع اليدين هنا ليس من مسائل العقيدة التي قد تستدعي الإنكار الشديد أو التبديع.[36]
«عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه بعد السلام (من الصلاة) وهو مستقبل القبلة، فقال: (اللهم حرر المستضعفين من المسلمين من أيدي المشركين) أو كما قال صلى الله عليه وسلم»–ابن أبي حاتم
والأحاديث الشريفة أكثر من أن تُنقل كلها في فضل رفع اليدين في الدعاء بعد التسليم من الصلوات.[37]
«عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الصَّلاَةُ مَثْنَى مَثْنَى أَنْ تَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ تَبَاءَسَ وَتَمَسْكَنَ وَتُقْنِعَ بِيَدَيْكَ (ترفع يديك في الدعاء) وَتَقُولَ: اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ»–سنن ابن ماجه
وهناك تمايز ما بين الفريضة والنافلة فيما يخص مسألة رفع اليدين في الدعاء بعد التسليم منهما.[38]
صلاة الفريضة
لا يُستحب رفع اليدين مباشرة بعد التسليم من صلاة الفريضة، وإنما يكون ذلك بعد الإتيان بالأذكار المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعد الاستدارة من اتجاه القبلة بنحو بربع دائرة (زاوية 90 درجة) نحو الشمال أو الجنوب (إذا كانت القبلة في اتجاه الشرق أو الغرب مثلا)، وذلك للفصل والتمييز ما بين الصلاة المفروضة وما بعدها من أعمال البر.[39]
صلاة النافلة
يُندب رفع اليدين مباشرة بعد التسليم من صلاة النافلة دون الاستدارة من اتجاه القبلة نحو الشمال أو الجنوب، وذلك لاشتراك صلاة التطوع مع الدعاء ورفع اليدين في الاستحباب.[40]